صارت القضية الفلسطينية وأزمات دول الشرق الأوسط وغيرها الكثير مثارا للتأمل ومجالا خصبا يدعو للبحث في طبيعة تقلب العلاقات الدولية بين التطور والتدهور في ظلال حالات الحرب والسلام .
يصعب الاعتقاد ان المذاهب والثقافات والأديان يمكن أن تتطابق ، ولكنها على الأقل قد تتوافق في الكثير من جوانب الحياة ، أوقد يؤدي اختلاف نظرتها إلى بعض المسائل الاقتصادية والاجتماعية إلى تعميق التباين في مواقف أطرافها إذا ارتبط الأمر ببعض القضايا الدولية خاصة التي تمثل درجة كبيرة من الحساسية ذات الخطورة العالية، حيث يؤدي هذا إلى بروز ما بينها من تناقضات كان مسكوتا عنها على سطح العلاقات وغالبا ما ستفرض سريعا حدتها لشدة تعلقها بمصالح حيوية.
المصالح الحيوية للدول مرتبطة بالأهداف المأمولة وبالنتائج المرجوة المراد تحقيقها لتمرير مبادرة معينة أو مشروع محدد ، ومجرد تعرض هذه المصالح لأي أسباب يمكن أن تسوّفها أو لظروف قد تلغيها يثير مباشرة حالة من الاعتراض السريع والامتعاض الشديد، ثم لا يلبث أن يتحول إلى مواقف عدائية حادة يحدث في الكثير من الأحيان أن تفشل الجهود السياسية لاحتوائها وتصبح الأمور على شفا حفرة من نار الحرب .
في ظروف الأمن والاستقرار يغلب على الحديث السياسي بحث سبل تدعيم علاقات التعاون الدولي وإرساء آليات تعزيز التنسيق والتشاور، أما في حالات النزاع المسلح فطبيعي أن تتجه الجهود إلى محاولة فك الاشتباك ووقف إطلاق النار، ولكن قد يتبصر الطرف الأقوى مصلحة في إدامة القتال لتحقيق المزيد من المكاسب يمكن أن يتخذها أوراق ضغط ومساومة خلال مفاوضات مرتقبة في قادم الأيام ،وإدامة القتال غالبا ما تكون غير محددة وتكون محملة بالمزيد من الخسائر، والطامة الكبرى أن ينطلق الطرف الأقوى في صراعه على أساس ظالم وعدواني غاشم ومخالف للقانون الدولي والقانون الدولي الإنساني فغالبا يميل نحو المغالاة في ارتكاب أفعال الترهيب التي تلامس جرائم الحرب كالتنكيل بالمدنيين، والإبادة الجماعية .. وأمام عجز المجموعة الدولية عن كبح جماحه ووقف اعتداءاته يصبح بلوغ حالة السلام للأسف بيده وحسب إرادته، وفق شروطه.. ويبقى على الطرف الآخر أن يحدد موقفه بمقدار ما يتمتع به من صلابة وتماسك واستعداد للتضحية لمواصلة المقاومة.
الحرب رهيبة وقاسية على الذين ركنوا واطمأنوا حتى لانت عزيمتهم وفترت إرادتهم وغفلوا عن حقيقة أن من يريد السلام عليه دائما أن يكون مستعدا للحرب ..الاطمئنان المضلل مدعاة للتراخي وسببا في التخاذل السريع امام أي تقلبات في العلاقات الدولية ، وكما يقال أن المصالح تتصالح فهي كذلك قد تتخاصم وتتضارب عندما تتناقض، ومن يغفل عن هذه الحقائق يرهن إرادته وسيادته لعدوه، وسيكون مضطرا لقبول تسويات مجحفة وقبول مبادرات غير عادلة، وهذا أمر منتظر عندما تتفاقم الأزمة إلى حد العجز عن ومواصلة المقاومة،إذ سيكون حينها الطرف الضعيف في المعادلة مجبور على مواجهة سيناريو قديم متجدد يرمي إلى إخضاعه لضمان تجنب احتمالات الخطرمنه، وضمان الأمن عن طريق فرض سياسة أقرب إلى فرض الاستسلام، إنها سياسة السلام عبر القوة.
**
ترامب ماض في غيّه
أصبح ترامب متحدثا رسميا باسم حكومة الكيان المحتل بعدما ارتقى من حارس الحديقة ، وشرطي المدينة !فمن جهة يسعى إلى ترحيل المهاجرين من بلده وطرد المقيمين الأجانب منها، ومن جهة أخرى يريد تهجير شعب من أرضه من أجل الدخلاء والأجانب !!
صحة التمييز وعمق الإدراك نعمة كبيرةلأنهما بمثابة درع الإنسان الواقي لمواجهة قضايا الحياة بكل تبصّر ومسؤولية ودون أخطاء ، والسلامة العقلية تمنح المرء القدرة على التفكير الصحيح ، فهي الروح التي تضبط حياته في جميع أعماله ، وهذه السمات شروطا أساسية يجب توفرها في كل من يتولى مسؤولية إدارة مهام كبرى في المناصب العليابالدولة، فما بالك إذا كان الأمر يتعلق برئيس دولةتوصف بالكبرى وتعتبر طرفا مؤثرا في السياسة العالمية .
لقد أجاب شرطي المدينة، حارس الحديقة في لقاء صحفي متلفز ردا على سؤال عما يمكنه أن يفعل بعد إعلان رفض مصر والأردن تهجير الفلسطينيين من أرضهم في قطاع غزة والضفة الغربية إلى بلديهما، إذ أكد بكل غرطسة : " سيفعلان ، لقد فعلنا الكثير من أجلهما وعليهما فعل ذلك .. إن غزة مثيرة للاهتمام، إنه موقع استثنائي " هكذا قال.
إذن هو يريد أن ينال المقابل من زعمه وقوف الولايات المتحدة مع البلدين ! كان من المنتظر أن يذكرنا بالمناسبة بوقفتها التاريخية معهما، أهي خلال نكسة حرب عام 1967 أم خلال حرب أكتوبر 1973 ، مصر لا تمُن على أمريكا بمشاركتها في عملية درع الصحراء عام 1991 في حرب تحرير الكويت ، لأنه كان واجبها نحو الشقيق ، الواجب الذي يمليه اتفاقية الدفاع العربي المشترك وليس لنصرة أمريكا فليست مصر من تناصر الغريب على القريب أو تغلب كفة الأجنبي على الشقيق.
إن تأكيد شرطي المدينة ، حارس الحديقة الأشقر " أنهما سيفعلان"أي مصر والأردن ـ يعطي مؤشرا خبيثا يوحي بسياسة لي الذراع وممارسة الضغوط لإجبار السلطات المصرية والأردنية على الانصياع لأوامره الهوجاء ولسياسته العمياء ، وليتها كانت كذلك بل هو انسياق أمريكي كامل الأوصاف من ذوي العيون الزرقاء لدلع الكيان المحتل الذي لا يطيق وجود البلدين العربيين إلى جواره، والحقيقة أن كل العرب لا يطوقون رؤية هذا الكيان الدخيل وسطهم ، ولا يطيقون رؤية حارس الحديقة الأشقر يدس أنفه فيما لا يعنيه، ولعل وقفة تحدي الشعب المصري صباح الجمعة 31 يناير 2025عند معبر رفح خير دليل على رفض تهديده، وعلى مدى دعم الشعب لموقف سلطات بلاده أمام محاولة إعادة تدوير النماذج السلطوية القديمة وأساليب السيطرة الغاشمة.
لقد سبق أن منحت بريطانيا لشتات اليهود عام 1948 ما لا تملك في فلسطين، منحت الأرض بدون أي وجه حق إلى من لا يستحق ، واليوم يريد ترامب أن يواصل نفس النهج القميء ليعيد التاريخ نفسه باستكمال سيناريو مؤامرة الاحتلال الكبرى. الوضع الآن مختلف تماما، فلن تقرا الأجيال القادمة أن يكتب التاريخ عن آبائهم ما يخجلون منه، سيكتب أن بواسل الجيش المصري هتفوا بأعلى صوتهم " حالفين لنموت وتعيش مصر الوهّابة " ترامب ماض في تحديه بتجاهل الرفض العلني المتكرر لتهجير الفلسطينيين من أرضهم وتصفية قضيتهم وإحالتها برمتها على الجانب المصري والأردني ، ترامب ماض في غيه ولن يسلم من انتقاد خصومه السياسيين ومن غضب شعبه في الداخل الأمريكي الذي لن يقبل التضحية بأبنائه من أجل فرض ظلم رئيسه الأرعن.
**
مؤامرة التهجير الكبرى
المؤامرة الإسرائيلوـ أمريكان الرامية إلى تهجير مواطني غزة والضفة الغربية من أرضهم تلامس في معناها الطرد ،وتقارب حدود التطهير الديني والعرقي الذي لن يتحقق باستبداله بالنجاسة .
توجه أهوج لفكر أعوج
أطل علينا صاحب الوجه النحاسي شرطي المدينة ، حارس الحديقة يتوعد بالعقوبات إذا لم ترضخ مصر والأردن لطلبه استقبال المواطنين الفلسطينيين على أرضهما ، ثم سيرى صاحب الوجه النحاسي فيما بعد ما يمكنه أن يفعله لجبر خواطرهم جميعا وتصبيرهم على ما هم فيه من الهم والغم ، ذلك أنه لا يرى للفلسطينيين حق في البقاء على أرضهم !أي أنهم غرباء مثل جميع الأجانب المقيمين في أمريكا المهددين بالإبعاد والترحيل إلى بلادهم ، وليتها جاءت من أحد آخر غيره، فدونالد ترامب78 عاما أب لخمسة أبناء من ثلاث زوجات وعشرة أحفاد، هو من أصل ألماني واسكتلندي ، زوجته الأولى مارلا مابلزكانت شخصية تلفزيونية أمريكية، والثانية إفانا ،سيدة أعمال تشيكية والثالثة ميلانيا،عارضة أزياء .. من سلوفينيا، إذن العائلة ما شاء الله معظمها وعلى رأسها دونالد ترامب هو نفسه من أصول أجنبية ، يعني مهاجرين، وأي قرار بترحيل المهاجرين والأجانب من أمريكا لابد بداهة أن يشملهم هم أولا، ودعوته بترحيل الأجانب والمهاجرين وعدم منح الجنسية الأمريكية للمواليد على الأرض الأمريكية ينقصه الكثير من الحكمة والتبصر، أي أنه توجه أهوج لفكر أعوج من أصحاب النزعة العنصرية المحملة بشحنة عدائية الخالية من اي اعتبار للقيم والعلاقات الإنسانية.
مؤامرة التهجير وصمة عار على جبين من ابتلت البشرية بشرورهم ، وضاقت الإنسانية بغرورهم الممتد والمتجدد منذ سنوات "الكاوبوي"إن الشعب الأمريكي طيب، يقدس العمل ، يحترم الرجل الصالح ، ويُقدر الكفاءات مهما كانت في كل مجالات العمل الحساسة، وأمريكا قاطرة الحضارة والتقدم العلمي والثقافي ، وديمقراطيتها مثالا يحتذى به ، أمُا أن يتعاطف مع اسرائيل الظالمة المعتدية لنصرة احتلالها لفلسطين فيبدو أنهم لم يقرؤوا التاريخ ولا يدرون ما أصل المشكلة، أو أنهم وقعوا في فخ اللوبي الذي يملك بنفوذه المالي مصيرهم ، لقد توغلوا في مفاصل عدة دول كبرى بالخداع والأكاذيب والافتراءات على المجتمع الدولي كله والمشكلة لن تقتصر على أرض فلسطين وحسب بل ستمتد أطماعهم إلى معظم دول الجوار، ولذلك تتحسس مصر والأردن كثيرا من خطورة تطورات هذه المؤامرة على أمنهما واستقرارهما، والحل المنظور هو ضرورة تمكين الشعب الفلسطيني من سبل العيش في بلده والمساهمة في تثبيت أقدامه على أرضه، والشروع فورا في تهيئة البنية التحتية لتشجيع الفلسطينيين المقيمين بالخارج على القدوم لبلدهم والمساهمة في بنائه وعمارته وتطوير الحياة فيه.
مؤامرة التهجير الكبرى تقوم على أساس الضغط الشديد على مصر للموافقة عليها ، فبدون ذلك لا سبيل لتمرير المؤامرة ،لقد منعت إدارة بايدن عن مصر مدة5 سنوات كاملة كل حقها المالي المقرر في اتفاقية كامب ديفيد أي 1.3 مليار دولارسنويا ، وقبيل مغادرة بايدن البيت الأبيض لم يشأ أن يُنسب الفضل بعد ذلك إلى ترامب فقررتسليم المبلغ كاملا لمصر وقد كان بالفعل ، كان ذلك مجرد نموذج فقط لشكل الضغوط التي تتحملها مصر ، تماما مثلما تحملت المتاعب المالية بعد فقدها 7 مليار دولار في عام واحد تمثل جزء هام من عوائد المرور بقناة السويس وذلك جراء الاعتداءات المسلحة للحوثيين على السفن المارة بباب المندب إلى البحر الأحمر ثم عبر قناة السويس، كموقف أراده اليمن إسنادا عمليا للمقاومة الفلسطينية ، بالإضافة إلى أشكال أخرى كثيرة مثلت إغراءات مالية أمريكية هائلة لثني عزم مصر ودفعها للتراجع عن موقفها اذي لا شك سيذكرها التاريخ لمصر ولباقي الدول العربية بعميق التقدير والفخر والامتنان.
إنها مؤامرة خبيثة كبرى لا ندري حقيقة ما يمكن أن تسفر عنه من نتائج ، إلا أن ما يستوقف رحلة الروح في تطور الفكر عبر الزمن هو اليقين بقدرة الشعب المصري على دعم ومساندة قيادته السياسية ، وعلى الثبات في موقفه الداعم للشعب الفلسطيني من أجل التمسك بأرضه والتشبث أكثر بوجوده في بلده .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
0 comments:
إرسال تعليق