مع ديوان " ظِلالٌ مُضاعفةٌ بالعِناقات " للشاعر نمر سعدي/ د. عدنان الظاهر

  


( مقدِّمة ومقتطفات من أشعار هذا الديوان وسياحات ) 

قناعتي، من متابعاتي لأشعاره، أنَّ الشاعر الفلسطيني الأستاذ نمر سعدي هو شاعر آخر من شعراء فلسطين ممن يتبوأون الطبقة الأولى بين شعراء فلسطين المعروفين وإني أراه شاعرِ فلسطين الأول في مجاله الشعري الخاص وطبيعة لغته الشعرية وصوره ورموزه ومجازاته وإشاراته رغم أنه كرّس نفسه وشعره لصنف واحد ( تقريباً ) من أصناف الشِعر ألا وهو الشعر النسائي، رومانس الأنثى ( قدّمَ ديوانه بهذه الكلمات : إلى كل مَن أحبني وأحببتُ ) كما فعل نزار قباني في دواوينه الشعرية المبكِّرة عدا أنَّ نمر سعدي أكبرَ وأكرمَ وأحبَّ المرأة وعبدها بكل ما أُوتي من نبل العاطفة ودار حولها كصوفي كما تدور زهور عبّاد الشمس إينما دارت هذه .. دار حولها لكنه لم يلامسها ولم يعرّبد كما كان القباني يفعل ويتعنتر ويسف في إذلال المرأة من قبيل ( وفصّلتُ من جلدِ النساءِ عباءةً / وبنيتُ أهراماً من الحَلَماتِ ) وأسفَّ أكثر في قصيدة ( حُبلى ) و قصيدة ( لا تكذبي ) التي غنّنتها فائزة أحمد فأجادت وقد إنتقّت أفضل ما في هذه القصيدة من أبيات. لا ، سعدي من نمط رجال آخرين وإنه لعلى خُلُقٍ عظيم.

1ـ إفتتحَ ديوانه هذا بمقدمة من أبيات قصيدةٍ للشاعر العراقي بدر شاكر السيّاب .. فهل لهذا من مغزى أو دلالة ؟ يدلُّ هذا على أنَّ الشاعر نمر سعدي كان قد قرأ السياب واستوعبه جيداً وتأثر به أو ببعض شعره فساقه أمام ديوان شعره رأيةً ومصباحاً يُنير الطريقة . أبيات السياب [ هديرُ البحر يَفْتِلُ من دمائي، من شراييني

حبالَ سفينةٍ بيضاءَ يَنْعُس فوقها القمرُ

ويُرعش ظلَّها السَّحرُ

ومن شُبَّاكيَ المفتوحِ تهمس بي وتأتيني

سماءُ الصيف خلَّف طيفَه في صحوها المطرُ ]

بدر شاكر السيَّاب

(شاعر عراقي )

لم أجد ولا أرى أية ضرورة لإقتباس هذه الأبيات من شعر بدر شاكر السياب فلا جامعَ يجمعها وأشعار هذا الديوان ( ظلال مُضاعفة بالعناقات ) ونمر سعدي ليس السياب لا تأريخاً ولا خِلْقةً ولا تكوينا ولا ظروفاً فما قيمة التعكّز والإتكاء على بعض شعر السياب ؟ نمر سعدي الشاعر ليس بحاجة للإتكاء على أحد لا من أجل الشُهرة ولا من أجل الإرتفاع فله من الشُهرة اليوم ما يستحق ثمَّ إنه مُرتفعٌ بنفسه وقامته مديدة. ليت نمراً ذكر اسم القصيدة التي ضمت هذه الأبيات. حاولتُ أمس في ساعات الليل المتأخرة لكنَّ محاولاتي باءت بالفشل.

2ـ وحدة الشعراء . ما الذي عنى نمر سعدي ب [ وحدة الشعراء ] ؟ لماذا تهمه هذه الوحدة ؟ هل هي جزء من مبدأ وحدة الوجود ( الكون مادة واحدة لا غير ) الفلسفي الذي قال به فلاسفة قدماء وآخرون معاصرون مخالفين به أولائك الذين يدينون بثنائية هذا الوجود ( الكون مادة ومثال، روح، كون أعلى غير مادي ) وما هو موقف الشاعر نمر سعدي من هذا الخلاف الفلسفي وهل هو مع وحدة الكون ثم وحدة الشعراء أو أنه مع ثنائية الكون وتفرّق الشعراء شيعاً وألوانا ؟ هل أراد الأستاذ نمر أنْ يُعيد مقالة ماركس [ يا عمّالَ العالم اتحدّوا ] لكنْ يطبّقها على الشعراء ؟ هل الشعراءُ جميعاً مناضلون ؟ طبعاً كلاّ. فيهم الوطني والقومي والمسلم والشيوعي كما فيهم العميل والخائن وفي خضم الحرب العالمية الثانية عُرِفت خيانة الشاعر ( عزرا باوند ) بتعاونه مع الغازي النازي هتلر ضد وطنه إيطاليا والشعب الإيطالي. ولنا مثال آخرعلى خيانة بعض الشعراء المعاصرين وهو عبد الرزاق عبد الواحد الذي خان الشعب العراقي بتمجيده حدَّ التقديس حاكماً دموياً متسلطاً منحرفاً أغرق العراق بالدم والسموم والدماروأشعل حرباً طويلة مع الجارة إيران وغزا البلد العربي الكويت. الخيانة درجات وطبائع لكني عرضت أبشعها وأشدّها قبحاً.

الشعراء ليسوا طبقة واحدة متجانسة موحدّة المصالح كشأن طبقة البروليتاريا ( العمّال ) .. فيهم المعتوه الموهوب وفيهم المعتدل مستور الحال كما فيهم الميسور النرجسي المتعالي. وعليه لا يستطيع الشاعر نمر سعدي رفع صوته بشعار [ يا شعراء العالم اتحدوا ] كما قال ماركس في بيانه الشيوعي مع أنجلز علم 1848 [ يا عمّال العالم اتحدوا ]. ثم يا نمر : في القرآن سورة اسمها الشعراء وفيها { الشعراء يتّبعهم الغاوون ... يقولون ما لا يفعلون } فما يا تُرى نتوقع من هؤلاء الشعراء في هذا العصر الذي ترى أنت وأرى أنا ؟

يحضرني [ وأعتذر عن هذه الإنزياحات السياحات ] ... نموذجان لرجلين أحدهما شاعرأرستقراطي نبذه مجتمعه الطبقي فغادر وطنه من غير رجعة فساح ورأى وكتب الأشعار التي ذاع صيتها وشَهُرتْ أيّما شهرة ثم تزعّم حركة اليونانيين الثوار ضد الهيمنة العثمانية وأمدّهم بالمال والسلاح وسخّر كلَّ ما لديه من إمكانيات ومن أشعار. ثم مات بعلّة غامضة وهو في عزّ وعنفوان الشباب فما الذي دفعه أنْ ينهج هذا النهج الصعب وما كانت علاقته وهو الإنكليزي النبيل بثوّار وأحرار اليونان ؟ هل فينا اليوم مَنْ يُماثل هذا الشاعر؟ إنه الشاعر الإنكليزي المعروف جورج غوردن لورد بيرْنْ. قدّم هذا اللورد النموذج الأمثل لندائكَ عزيزي نمر سعدي بالإنحياز إلى معسكر الحرية والإنعتاق من ربقة الظّلَمة والمستبدين أي أنه كان أُمميّاً وكان رمزاً حيّاً لشعار [ يا شعراء العالم الأحرار اتحدوا ] فلنأخذ منه مثلاً فالشعر يعني الحرية والإنسان غير الحر المنحاز للمستبدين والطُغاة وسفاكّي دماء شعوبهم لا يمكن أنْ يكونَ شاعراً.

المثال الآخر، وما كان شاعراً، لكنه كان مناضلاً أُممياً حقيقياً طبّق شعار [ يا أحرارَالعالم أتحدوا ] .. ترك منصبه وزيراً للإقتصاد في كوبا وقاد مجموعة من أتباعه وقاتل الإمبريالية الأمريكية في بوليفيا حتى تمكنَّ الأعداءُ منه فأسروه ثم قتلوه. إنه جيفارا. فعلام يتحد الشعراءُ عامّةً وشعراء العرب خاصةً  في عالم نَتنٍ موبوء مقلوب القيم والمفاهيم الغلبة فيه للقوة والقوي لا للمبادئ والنقاء والمثاليات. مع ذلك { يا شعراء العالم اتحدوا } تحت راية شاعرنا نمر سعدي.

ليس لديَّ نسخة ورقية لديوان ظلال مُضاعفة بالعناقات فاستنسختُ بضعة صفحات وعانيتُ بعض الشئ من خلو الديوان من ترقيم الصفحات. لا أستطيعُ استنساخ جميع صفحات الديوان وليت السيد نمر وافاني بنسخة ورقية منه لكفاني الكثير من المشقات.

3ـ  قلتُ : لنمر سعدي عالمه الشعري المتميّز والخاص إنساناً ومثقفاً وعاشقاً للمرأة والشعر معاً. كما له قاموسه اللغوي الخاص الذي يمتازُ به ويميّزه عن باقي الشعراء. وله قدرة عجيبة على الإنتقال من لفظة إلى أُخرى ثم الرجوع إلى الأولى بمهارة يعززها بمقدرته الفائقة السرعة على التقديم والتأخير كأنَّ فوتونات الضوء في خدمته لإستخدام هذا الأسلوب وهذه الآلية. لتوضيح ما أُريد قوله أضربُ مثلاً مما استعار الشاعر من أبيات السياب [ ومن شبّاكيَ المفتوحِ تهمسُ بي وتأتيني ... سماءُ الصيفِ خلّفَ طيفُهُ في صحوها المطرُ ]. هنا تداخل وتشابك وتقديم وتأخيرلا تحتاج إلى توضيح يراها القارئ ويلمس تأثيرها الشعري الناجح وقد أكثر السياب في شعره من هذا الأسلوب فغدا علامة فارقة ينمازُ بها هذا الشاعر العراقي. تأثّر نمر سعدي بهذه الآلية الشعرية الفنية فطبعت أغلب شعره وحقق بها نجاحات منقطعة النظير وهو الدارس الجيد للتراث تأثر به قليلاً لكنه طوّر وأضاف وتفوّق.

4ـ أمثلة من شعر نمر سعدي مأخوذة من هذا الديوان:

من أينَ تبدأُ وحدةُ الشعراءِ؟

من أيِّ الجهاتِ تهبُّ؟

من أيِّ البحارِ تجئُ؟

من أيِّ السماواتِ البعيدةِ فجأةً تأتي؟

وكالبَجَعِ الخُرافيِّ المُهاجرِ تختفي في النصِّ

أو حَبَقِ الشتاءِ

من أين تبدأُ وحدةُ الشعراءِ؟

من أيِّ انتهاءٍ للكلامِ عن الحرائقِ في مجازاتِ الأنوثةِ

والحدائقِ ملءَ أجسادِ النساءِ؟

لا شئَ أعرفهُ.. وُلِدتُ كنجمةٍ تهوي من الرؤيا

ومن سِفرِ المزاميرِ الجديدِ

وعشتُ أرعى العُشبَ في قاع البحيراتِ

التي انقرَضَتْ وفي بَرِّ اشتهائي

لا شئَ أكتبُهُ.. ولكني أحاولُ أنْ أفسِّرَ بالندى ماءَ المرايا

والصدى بالليلِ في وقتِ الظهيرةِ 

والقوافي بالينابيعِ الحَرونِ

يُضيئُني شيئان : كُحلُ حبيبتي ولظى دمائي.

أتناول الأبيات الستة الأولى وأتفحّصها مليّاً لأكشف ما فيها من فنون الشاعر نمر سعدي الخاصة التي يتميّز بها عن سواه من الشعراء وعن المشترك بينه وبين غيره من الشعراء.

من حيث الشكل، الهيكل، هندسة البناء : كرّر الشاعر هنا حرف التاء مرّاتٍ عِدّة مرةً في وسط البيت أو في آخره أو حتى كرره مترادفاً في لفظة واحدة. حرف التاء يوحي بالتأتأة التي توحي بالتريث وإطالة البال وتجنب العجلة فلقد وضع أسئلة كثيرة تنتظر أجوبةً مناسبةً لها الأمر الذي يستلزم التأني والتفكير جيداً في اختيار الأجوبة المطلوبة. لقد سأل ست مرّاتٍ أسئلة تخص الشعراء وهو واحدٌ منهم .. سأل من أين مرتين وسألَ من أي أربع مرّات في ثمانية أبيات متتالية فقط. التأني مطلوب قبل الإجابة فللشعراء شأن خاص وهيبة مناسبة تقرب من القدسية .. والشعر سِفرٌ مُقدّس كأي كتاب سماوي مُنزَل لذا قد أُتهِمَ بقوله بعض الأنبياء وأُفرِدت في القرآن سورة كاملة حملت اسم { الشعراء } .. فحذارِ حذارِ يا قرّاء الشعر ويا نقّاده... تأتوا وتلعثموا وتريثوا قبل النطق بحقه وحق الشعراء. ورود هذه التاءات الست في ثمانية أبيات ذو مستويين فنيين جماليين الأول إيقاعي الطبيعة والتأثير ويُذّكر القارئ بما في الشعر العمودي من قوافٍ مترادفة مُكررة لا تتغير في نسيج القصيدة. الإيقاع إذاً موجود لكنه إيقاعٌ متحرك وليس ساكناً فالشعر حركة وتطور لا سكونَ فيه ولا خمود. قوافٍ متحركة تُعطي الإنطباع المقروء والمسموع للقارئ ذاك الذي يبتغيه الشاعر فوراء الإيقاعات ما وراءها من مقاصد وأهداف يضمرها الشاعر ويبين عنها من خلال الكلمات التي تتخلل هذه الإيقاعات. والمستوى الثاني محصوربوظيفة الإيقاع كحامل رسالة أكثر من مزدوجة فيها المكشوف ومنها المخفي وهناك الفوق السطور والتحت السطور والمابين السطور. الإيقاع يُيسّر الإنزلاقات كزيت المكائن ويُلطّف الأجواء الساخنة والمتشنجة كماء تبريد مكائن السيارات وغيرها. ألقي نظرة أخرى على أبيات هذا المقطع متفحصاً المضمون بعد أنْ فرغنا من موضوع الهيكل والشكل أو كدنا. أظن أني بحاجة لأنْ أقول إنَّ هذه الأبيات التي تعجبني كثيراً قد لا تعجب غيري وذلكم أمر طبيعي فالإختلاف رحمة والإختلاف سُنّة في الحياة. ما أسباب إلحاح نمر سعدي بالسؤال بأين وأي عن الشعراء وهم في حركة دائمة وفي كل وادٍ يهيمون { وينهزون مع الغواة بدلائهم ويُسيمون سرح اللهو حيثُ أساموا } ؟ في الحقيقة أنَّ النمر لا يسأل عن زملائه الشعراء إنما سؤاله منصبٌّ على وحدة الشعراء (( من أين تبدأُ وحدةُ الشعراءِ )) ؟ يسأل الجهات الأربع عنها ويسأل البحار والسماواتِ البعيدة لكنه يُفاجأ بأنها كأنها أتت لكنها تختفي في النص ! أي نص ؟ أو تختفي في ( حَبَقِ الشتاءِ ). لنفترضَ أنَّ هذا النصُّ هو نص القصيدة ولكن ما علاقة ( حبق الشتاء ) بهذا الإختفاء والحبق حسب علمي شجرٌ أو ثمرٌ أو نباتٌ لا نعرفه في العراق. قال نقّاد ومنظّرون إنَّ الشعرَ ضدَّ المنطق وإنه تشويش وخلط للمعاني المعروفة للكلمات فهل هذا هو نهج وديدن نمر سعدي في كتابة الشعر؟ لا ريبَ أنْ نعم. يستطيعُ حتى الشانئ أنْ يعترف أنَّ نمر سعدي يؤمن أنَّ النص الشعري الحقيقي هو ما يوحد الشعراء.. الشعر الشعر وليست الألفاظ المصففة بعناية والمدوزنة بإيقاعات تحاكي أصوات الصنوج ودقّات الطبول. وهذه الوحدة التي تجمع الشعراء نادرة نُدرة الحَبَح في موسم الشتاء فإنه على ما يبدو من نباتات فصل الصيف فصل الشمس والحرارة. ثم يقفز الشاعر بقفزة عريضة طويلة وعالية منتقلاً من عالم مسطّح واضح خالٍ من النتوءات والمطبات والحُفر إلى آخرَ يغصُّ بها حدَّ الإختناق. بعد أنْ تساءل النمرُبحرقةٍ وبلهفةٍ عن وحدة الشعراء ثم وجدها مختبئةً غيّرَ الأجواء السابقة واستبدلها بأخرى أكثر تعقيداً وأشد تشعباً وأكثر خرقاً للمنطق المتداول المعروف إذْ غاص في أعماق طقس لُجّيٍ شديد الغموض كثير العتمة  لكنْ تحت شمسٍ ساطعةٍ مُنيرة فكيف اجتمع النقيضان ؟ غاص نمر في الأعماق أعماق نفسه والدنيا فقال في الأبيات الثامن والتاسع والعاشر والحادي حتى نهاية هذا المقطع أموراً مُذهِلةً تخطفُ الأبصار وتثير الأخيلة تبدو متنافرة غير منسجمة لا رابطَ يربط بينها لكنْ يظلُ الشاعر نمر سعدي يقظاً صاحياً ماسكاً بزمام الأمور يوجه الدفّة إلى حيثُ يُريدُ ومتى ما يريد  ورياحه تجري حسبَ رغبته وتصميمه ومُشتهاه :

(( من أينَ تبدأُ وحدةُ الشعراءِ؟

من أيِّ انتهاءٍ للكلامِ عن الحرائقِ في مجازاتِ الأُنوثةِ والحدائقِ مِلءَ أجسادِ النساءِ ))...

لا نسأل عن المنطق الشكلي القديم ولا نسأل عن التدرج والرابط والمربوط والسبب والنتيجة. كل شئ هنا ضد المنطق وكل شئ هو هدم وبناء في ذات اللحظة لا انقطاع ولا سكون ... الزمان متصل لا يقف منذ الأزل إلى الأبد والشعر دالة زمنية قبل أنْ يكونَ دالة مكانية. يسألُ الشاعر عن مكان وحدة الشعراء ( من أين ) لكنه بدلَ أنْ يُجيب يتوه هائماً في وديان عميقة سحيقة لا ماءٌ فيها ولا زمزمٌ ولا زرعٌ فيها ولا بشرٌ فتختلط عنده الأنوثة بالحرائق ( الأنوثة ... الأنثى .. هيكل الشاعر المقدّس ). ما علاقةُ أجسادُ النساء بمسألة اتحاد الشعراء ومن أين تبدأ ؟ الشعر الحق في نمر سعدي يُجيب : إبداع نمر الخلاّق .. الشعر الشعر في المقصود في قوله ( ... من أيِّ انتهاءٍ للكلامِ عن الحرائقِ في مجازاتِ الأُنوثة والحدائقِ ملءَ أجسادِ النساءِ ). أيجتمع الشعراءُ بعد أنْ تنتهي جولات القال والقيل وسيول الكلام الفارغ والجدالات العقيمة متفرغين للشأن النسائي الأرقى والذوبان في صميم المرأة خالقة الناس حدَّ الإحتراق تطهيراً وإخلاصاً ووفاءً. نلاحظ السجع الجميل في ( حرائق وحدائق ) والفرق في حرف واحد هو فرق حرف الراء عن الدال. المرأةُ هي دواء وإكسير التشتت وهي مربط الفرس والعروة الوثقى وإنها هي الأم الوالدة الخالقة وهيَ المخلوق الذي يُحب نمر سعدي ويعشقُ ويعبدُ.

ثم ينتقل نمر سعدي إلى أجواء شعرية إيحائية أخرى لا علاقة لها بالشعراء ووحدة الشعراء فنجده مُنكفئاً على نفسه يكلّمُ هذه النفس وينفي أنه يعرف شيئاً لكنهُ على يقين من أنه :

(( وُلِدتُ كنجمةٍ تهوي من الرؤيا

((  ومن سِفْرِ المزاميرِ الجديدِ 

(( وعشتُ أرعى العُشبَ في قاعِ البحيراتِ

(( التي انقرضتْ وفي برِّ اشتهائي

(( لا شئَ أكتبُهُ .. ولكني أُحاولُ أنْ أُفسِّرَ بالندى ماءَ المرايا

(( والصدى بالليلِ في وقتِ الظهيرةِ

(( والقوافي بالينابيعِ الحرونِ

(( يُضيئُني شيئانِ : كُحلُ حبيبتي ولظى دمائي )).

أنصح القارئ الكريم ونفسي ألاّ نحاول ترجمة وتفسير معاني كلمات نمر وألا نضعها في قوالب الحديد المتعارف عليها في محاولات فهم الشعر.. إنما أنصح الجميع أنْ يتمتعوا 

 بسحر وجمال وغرابة صور ومجازات الشاعر نمر سعدي مأخوذين مُعجبين مأسورين بقوة كبول حديد غامضة غير مرئية وما يترك هذا الضرب من الشعر من إنطباعات قوية غريبة فينا تُبهرنا ولا نعرف كيف نفسرِّها بل ولا نريد لها تفسيراً. نعم، يتنقل الشاعر من جو إلى آخر ومن طبع إلى نقيضه ومن لون إلى ألوان شتّى لكنه يظلُّ ذاك العازف على الناي السحري الذي يقود بسحر نغمات نايه قارئيه إلى حيث يُريد حتى ولو إلى بحر كما قرأنا في القصص .. وللموسيقار موتسارت معزوفة ( الناي السحري ) الشهيرة أوبرا أو سمفونية !.

أعجبتني بشكلٍ خاص تعبيرات نمر سعدي [ ولكني أُحاولُ أنْ أُفسِّرُ بالندى ماءَ المرايا ] الندى هو كذلك ماء فكيف يفسرُّ الشاعرُ الماءَ بالماءِ ؟  كنا أطفال مدارس صغاراً وكنا نسمع أحد المعلمين يقول [ وفسّرَ الماءَ بعد الجهدِ بالماءِ ] .. ولكن للندى معنى آخر هو الكرم والسخاء والجود وقال المتنبي [ ووضعُ الندى في موضعِ السيفِ في العُلى / مُضرٌّ كوضعِ السيفِ في موضعِ الندى ]. والتعبير الثاني [ يُضيئني شيئانِ: كُحلُ حبيبتي ولظى دمائي ].. فلنستمتع ولا نسأل ولا نُتعب أنفسنا بالأسئلة ونكتفي بما يتركُ الشعرُ فينا من إنطباعات وتأثيرات أغلبها غامض الطبيعة وليكنْ شعارُنا ( وطبْ نفساً إذا حضرَ الشعرُ والشعراءُ ) فسلامٌ على الشعراءِ وسلامٌ على نمر فلسطين السعدي الإنسان المتواضع الخجول والمتواري أَنفةً وسموّاً لا يطلبُ شُهرةً ولا يسألُ مديحاً ولا يسعى إلى مالٍ.

نموذج آخر لما جاء في ديوان ( ظِلالٌ مُضاعَفَةٌ بالعناقات ) من أشعار يحار المرءُ كيف يفسرّها لكي يفهمها وموقفي واضح وقديم هو أني لا أسعى لفهم الشعر الحديث والأكثر حداثة إنما أكتفي بما يترك فيَّ هذا الشعر من إنطباعات وتصورات ودفع للتفكير والتأويل وتلك رسالة يؤديها هذا النمط من الشعرتستحق الشكر والإمتنان ورفع القبّعات. ليس المطلوب من الشاعر أنْ يُفسّرَ شعره أو أنْ يجعل هذا الشعرَ مُسطّحاً مستقيماً واضح المعاني إنه حرٌّ فيما يقول والقارئ كذلك حرٌّ في التفسير وتيسير آليات فهم هذا الشعر وهذا إنجاز راقٍ غير مسبوق من شأنه توفير الحرية الكاملة وبالتساوي بين الشاعر والقارئ.

(( شاعرٌ مُضاعٌ وضلّيلٌ يُحدِّقُ بي

(( من نجمٍ في ثُقْبٍ أسودٍ أو زاويةٍ مُعتِمَةٍ في المرآةِ المشروخةِ

(( ينامُ على جيتارةٍ غجريّةٍ أو على جِذعٍ أندلسيٍّ

(( لا قصائدَ في قلبهِ.. ولا عِطرٌ ليمونيٌّ في قميصِ امرأتهِ الشاردةْ

(( أولُّ الحُبِّ كآخرِ الحُبِّ يا صاحبي.. أيها الذئبُ..

(( حِدْسٌ غامضٌ وسهمٌ يرتدُّ سريعاً إلى كعبيَّ

(( المغمورِ حتى التنهيدةِ بالعُشْبِ 

(( دعني أستظّلُ بهواجسكَ الصاخبةِ كرغَباتِ الراقصاتِ

(( فهيَ تُمطرُ منذُ الصباحِ فوقيَ أينما كنتُ ..

(( بغزارةٍ كما تمطرُ الآنَ في الخارجِ

(( أُهاجرُ في الزمهريرِ الليليَّ كعصفورٍ وحيدٍ

(( ربما هو معنى اللاطمأنينةُ التي كتبَ عنها فرناندو بيسوا

(( أنْ تمطرَ فوقكَ حتى لو كنتَ في السريرِ

(( لا مفرَّ من الشتاءاتِ المقلوبةِ كفناجينِ البُنِّ

(( ومن العَبَثِ أنْ تستظلَّ بالكواكبِ المارقةِ.

تكلّمَ نمر سعدي في المقطع السابق عن الشعراء .. تساءل متى وأين تبدأ وحدة الشعراءُ لكنه عاد في المقطع الثاني هذا ليُقررَ أنَّ [ شاعرٌ مُضاعُ وضلّيلٌ يُحدِّقُ به ]  .. إذاً تمت وحدة الشعراء التي تساءل عنها في المقطع الأول وألحَّ في سؤاله متى وأين تتمُّ ولكن من هو الشاعرُ الذي التقاهُ مُحدّقاً به ؟ إنه امرءُ القيس الشاعر والملك الضليل صاحب المعلّقة الشهيرة [ كفا نبكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ ... ] .. الملك الذي أضاع ملكه وحياته في محاولته ضمان دعم ملك الروم له في سعيه لإسترجاع ملكه والثأر لأبيه من قتلته. قتله ملك الروم ، حسب الرواية، برداء مسموم وكان قد تنبّاَ بمقتله وهو في الطريق للروم إذْ قال لصاحبه [ بكى صاحبي لمّا رأى الدربَ دونهُ / وأيقنَ أنّا لاحقانِ بقيصرا ... فقلتُ له لا تبكي عينكَ إنما / نحاولُ مُلْكاً أو نموتُ فنُعذرا ] وقد مات بالفعل كما توقع هذا الملكُ الضليل الذي اعترضَ سبيل نمر سعدي وحدّق به مستفسراً .. متعجّباً ... مُستنكراً .. مرحّباً .. متسائلاً عن أمرِ ما ؟ ألديك يا نمر أبٌ قتيل ومُلك اُستلب منك مثل امرئ القيس وهاملت أمير الدنمارك؟ لماذا ورّطتَ نفسك ومشيت في طرقات الشعر الخَطِرة العصيّة على المطاوعة والقاتلة لأجساد البشر ؟ لا .. لم يلتقيا أبداً إنما أطلَّ الضليلُ مُحدِّقاً من الأعالي .. من نجمٍ في ثقبٍ أسود ... القوب السود القادرة على ابتلاع كواكب ونجوم وأجرام جسام. أطلَّ عليه من خلال سنوات ضوئية سحيقة البعد ومن مكان مُرعب مُخيف ليقولَ له ( ربّما ) طريقك يا شاعر مرعب خطرٌ وأسود الآفاق فعد لبيتك واشرب قهوتك وتدثّر ونام.

( ينامُ على جيتارةٍ غجريةٍ أو على جذعٍ أندلسيٍّ لا قصائدَ في قلبهِ ولا عطرٌ ليمونيٌّ في قميص امرأته الشاردة ).. من هو الذي ينامٌ على جيتارةٍ غجرية أو على جذعٍ أندلسيٍّ ؟ سواء أراد نمرٌ ذلك أو لم يرد فإني أراه قد قصد قتيل فرنكو في الحرب الأهلية الإسبانية { 1936 ــ 1939 } الشاعر صديق أغلب الشعراء وحبيب الغجر فيديريكو غارسيا لوركا .. هو الآخر مثل امرئ القيس، شاعر قتيل مع الفارق الكبير هو أنًّ لوركا ما كان ملكاً ولا أميراً بل كان إنساناً دمقراطياً مع عموم الشعب وربما كان ميّالاً للإشتراكيين. ها قد اجتمعَ الشعراء فمن حقنا أنْ نسأل نمر سعدي عن مكان هذا اللقاء ونسأل [ هل غادرَ الشعراءُ من مُتَردمِ ] ؟

لم يحالف الحظُ الشاعر نمر سعدي إذْ وظّف تشيكلة ( اللاطمأنينة ) في أحد أبيات هذا المقطع .. لا شعريةَ فيها ولا من قوة إيحائية ثم هي ثقيلة على السمع والذائقة .. لكنْي أُخذِتُ بتعبير نمر [ لا مفرَّ من الشتاءاتِ المقلوبة كفناجينِ البُنِ ] هنا الإيحاءات القوية وهنا الشعر الحقيقي المطلوب من الشعراء. إلى كم توحي لي هذه [ المقلوبة كفناجين البُن ] ؟ هل تحتاجُ يا نمرُ { قارئةَ فنجان } نزار قبّاني وحليم حافظ ؟

عزيزي أستاذ نمر سعدي : أعتذرُ منك أني لا أستطيع المتابعات الأكثر جدية فأحوالي الراهنة لا تسمح ثم أني لا أستطيع مواصلة القراءة على شاشة الكومبيوتر فسسامحْ [ والمسامح كريم / جورج قرداحي ].


CONVERSATION

0 comments:

إرسال تعليق