غصات فلسطينية: "جرب" الاحتلال، وفُرقة الاخوان/ جواد بولس

 


أعمل منذ خمسة وأربعين عامًا في الدفاع عن الأسرى الفلسطينيين والمؤسسات الفلسطينية أمام المحاكم الاسرائيلية العسكرية والمدنية ؛ كانت الرحلة صعبة ومنهكة للجسد ومتلفة للأعصاب؛ لكنّها كانت اختياري ورحلتي على دروب الأمل التي حفرها مناضلو فلسطين من أجل نيل حريتهم وبناء دولتهم في حضن وطنهم. تذكرت، وكنت أقرأ اليوم بعض تقارير المؤسسات الحقوقية التي تتابع شؤون الأسرى في سجون ومعسكرات اعتقال الاحتلال، عدة محطات فارقة حصلت معي خلال مسيرتي المهنية؛ كان بعضها محزنا وبعضها مفرحا. وتذكرت كم مرة وقفت فيها أمام سؤالاتهم ولم أجد لهم نصيحة أو جوابا؛ لكننا، رغم الحيرة والشقاء، كنا دائما نحاول معا أن لا يعيينا السؤال ولا تعبث فينا الحيرة؛ ومعا، كنا إذا أغلق السجان أمامنا نافذة أو أوصد بابًا، نفتش عن مخرج، حتى لو كان عبر كوة أو من خلال ثقب ابرة.

هكذا كانوا، أسرى ولكن أحرارا حالمين وقد أقسموا أن "لن نخون العهد يوما" وأن يبقى الصدق والوفاء بينهم ديدنا ودينًا. وهكذا اخترنا، نحن رهط المحامين، أن نكون معهم، رغم أننا كنا على قناعة بأن العدل لا يحلب من أثداء الرصاص، وأن  خوذ الجنود لن تصبح أعشاش يمام، ولا نيران البنادق ستتحول إلى مشاعل سلام. عرفت ذلك وأقسمت أن أقف في طرف التاريخ الصحيح وأن أدافع عن أبناء شعبي المظلومين. حلمت، عساني أبرّد وسادة أسير بندى وردة قطفتها له من بستان حبه، أو بدعاءٍ أزهرَ في صدر أمه، أو ربما عساني أحمل له خصلة من الشمس ولو على ساقي نمله. هكذا كنا يوم كان الوطن عبارة عن فكرة يحلم بها شعب يعيش على قلب واحد بعزم وباصرار، ويوم كانت صلواتهم وأمانيهم تولد من السحاب مثلما يولد قوس قزح ومثله كانت تكبر وتنحني وتغور في الأرض التي كانت لهم هي الحضن وهي القبر وهي منبت العيدان ومربط الفوارس.

خمسة وأربعون عاما كان التراب الفلسطيني "أمتدادًا لأرواح" أبنائه إلى أن وقعت الفرقة وضاعت اليواطر. اليوم، وقد وصل الأسرى، في هذا الزمن المقفر، الى أحلك فترة في تاريخ حركتهم المجيدة، نعيش نحن على صدى الغصات، وهم في الأسر يرابطون على أعتاب جهنم الاحتلال ويدارون ألّا يصطلوا بنارها وهي تندلق قيحا من بثور تملأ جلودهم، أو ألا يسقطوا تحت الضرب والتعذيب أو من الجوع والبرد أو من الشوق والقلق، وبعضهم قد قال لي أن انتظار الموت قد يكون على المرء أصعب من الموت نفسه.

لم تحظ معاناة الأسرى بالاهتمام ولا بالمتابعة التي يستحقونها، خاصة في فترة الحرب الاسرائيلية على غزة. وقد يعود هذا إلى روع تفاصيل المشهد الفلسطيني العام؛ فمن الطبيعي أن تسلط الأضواء على صور القتل والدمار والنزوح في غزة وفي الضفة الغربية، وتبقى قصص الأسرى، رغم فداحة ما ينقل عنهم، قيد النسيان. 

أقول فداحة التفاصيل لأن ما نسمعه من الأسرى وما نقرأه في تقارير موثوقة يفوق العقل، ويدل على جدّية مخطط الحكومة الاسرائيلية بالقضاء الفعلي على الحركة الأسيرة والنيل من أفرادها، ولنا في أعداد عشرات الأسرى الذين سقطوا داخل السجون منذ السابع من أكتوبر 2023  أكبر دليل على وحشية المخطط الاسرائيلي وجديته.

يقول "نادي الأسير الفلسطيني" في آخر تقاريره: "إن المعطيات الواردة تباعا عن سجن "مجدو" من خلال أسرى أفرج عنهم، وكذلك من خلال زيارات الطواقم القانونية, تنذر بكارثة صحية، نتيجة انتشار مرض الجرب (السكايبوس) ، إلى جانب ورود معطيات أخرى تفيد بانتشار أمراض أخرى معدية". لقد نقلت تقارير نادي الأسير صورا موجعة ومقلقة، رواها الأسرى أو محاموهم، وفيها وصف لعمليات التعذيب التي تعرضوا لها وتسببت لبعضهم باضرار جسدية أو نفسية مستديمة. لقد روى بعض الأسرى عن اسلوب تعذيب ابتكره "شياطين" معسكر "سديه تيمان" اسموه "تعذيب الديسكو"، حيث كانوا يضعون الأسير في غرفة ويشغلون فيها موسيقى الديسكو بأصوات عالية جدا ويتركونها ليوم أو ليومين. لقد أفاد بعض الأسرى انهم كادوا أن يجنوا قبل نقلهم تحت الضرب المبرح لجولات تحقيق جديدة.

يعتقل المواطنون من البيوت ومن الشوارع ومن المستشفيات وينقلون الى أماكن لا يعرفونها وهم معصوبو العينين ومقيدو اليدين. يبقون على هذه الحالة طيلة فترة الاعتقال وخلالها ويجبرون على الجلوس إما على ركبهم أو على أقفيتهم، ولا يسمح لهم بالحركة أو بالحديث مع بعض. جاء في التقارير أن الأسرى يعانون من حالات تجويع متعمد ومن البرد الشديد ومن حرمانهم من الاستحمام وعدم السماح لهم بتغيير ملابسهم الداخلية الا بفترات متباعدة ويعانون كذلك من الاعتداءات الجسدية العنيفة التي تنفذ أحيانا برفقة الكلاب. كل هذه الممارسات تنفذ بحق آلاف الأسرى ويحرم المرضى منهم من أي رعاية صحية أو من تحسين ظروف معيشتهم إلى حدها الانساني الأدنى، حتى أدّى كل ذلك الى انتشار الأمراض وأكثرها شيوعا وازعاجا وخطورة هو مرض الجرب الذي  انتشر في معظم سجون ومعسكرات الاحتلال وطال أقسام الأطفال، خاصة المحتجزين في سجن مجدو والبالغ عددهم 160 أسيرا  (من أصل 350 أسيرا طفلا محتجزا في سجون الاحتلال) .  

لا أريد أن أسترسل في ذكر كل ما جاء على ألسنة الأسرى؛ فالأوصاف والتفاصيل تشبه ما قرأناه عما جرى في سجون ومعسكرات أعتى الديكتاتوريات وأقساها، ليس من حيث أساليب التعذيب ووسائله وحسب، بل بتغذيتها بمفاهيم الشر وشيطنة الآخر حتى اعتباره غير جدير بحياة البشر أو بالحياة عموما.

 هذا هو الواقع الذي تواجهه الحركة الأسيرة في أيامنا، والمؤسف أن جحيمها لا يلقى الاهتمام ولا يواجَه بردود صحيحة ومؤثرة؛ فالشعب الفلسطيني يرزح تحت أعباء الفرقة الداخلية والقصف الاسرائيلي والقتل والملاحقات والاغلاقات والقمع اليومي؛ والعالم مشغول بمجاملة اسرائيل واسترضائها، أو بقضاياه الداخلية الحارقة، وبعضه يطلق، من حين لآخر، قليلا من اللوم والتنديد والشجب لسياسات اسرائيل ويضمّنها مواقف ضد جرائمها المرتكبة بحق الأسرى. أمّا أغلبية المجتمع اليهودي فتدعم سياسة الحكومة، وتنحصر معارضتها في الهوامش وتحديدا في تقارير بعض المؤسسات الحقوقية المناهضه للاحتلال. ويأتي دور الجهاز القضائي الاسرائيلي، العسكري والمدني، المتواطىء مع هذه الجرائم. فمعظم من يعملون فيه مطّلعون على ما يجري داخل السجون ويقرأون التقارير أو الالتماسات التي تقدم لهم باسم منظمات حقوق الانسان والمحامين. إنهم يقرأون ويصمتون ويدافعون عن هذه الجرائم ويجدون لها الأعذار والمبررات. من بين هؤلاء سنجد قضاة المحكمة العليا الاسرائيلية وقضاة المحاكم العسكرية الذين يقرأون ويسمعون ويرون الأسرى، عبر شاشات الفيديو وهم مصابون بالجرب وعلاماته الظاهرة أو بالهزال المرضي أو بضعف النطق والبصر وغيرها من الأمراض، يرون ولا يحركون ساكنا، بل يمضون في ممارسة دورهم التاريخي بتحرير قراراتهم اللولبية وفذلكاتهم الفقهية التي تبرر بخواتيمها ممارسات الجنود والسجانين والمحققين وتغضّ الطرف عن الظاهرة، تماما كما فعلوا طيلة سني الاحتلال حين كانوا حُماته وغاسلي جرائمه. 

أكتب عن جميع هؤلاء وهم معدودون على معسكر الأعداء، فماذا أقول عن معسكر الاخوة والأشقاء العرب والمسلمين ؟ عنهم لا ينفع الحديث ولا جدوى ولا أمل منهم. من أين الأمل وفي معظم سجون أنظمتهم يعاني المساجين من أسوأ الأوضاع خاصة إن سجنوا وعدّوا من المعارضين او المخالفين لارادة الحكام أو المرتدين عن "دينهم" ؟ من أين العشم فيهم وجلهم حلفاء لاسرائيل بالعلن وبعضهم بالخفاء أو ساكتون عنها كرمى لعيون أمريكا، أو عن عجز وقصور وعمى. 

يبقى الأمل معلقا على الحركة الأسيرة نفسها؛ لكنني أخشى أنها قد أصيبت بالضعف وبالشلل قبل اصابتها بضربات حكومة نتنياهو وبالجرب. لقد نوهت في الماضي من "ساعة القيامة" وقد كنت أشعر كيف تدق الأسافين في صفوف المناضلين وهم يتعسكرون كمرايا لفصائلهم المتناكفة. كنت أخاف من هسيس الجن وهو يملأ فضاءات فلسطين وأتمنى أن لا يُدخلوه الى قلاعهم، ولكن حصل ما حصل،  وها هي الساعة حاضرة، وغزة تتفسخ وتنزح وتردم وتنزف والضفة تقطع وتلهث وفي السجون يربي الاحتلال الجرب.

خمس وأربعون عاما مضت فماذا ينتظرون والى متى ؟ وانتظار الموت يبقى لدى البعض أصعب من الموت وأحلام سفر. 

CONVERSATION

0 comments:

إرسال تعليق