كتبت عن التضليل الإعلامي مقالات وتحاليل كثيرة ومنها صفحات مطولة في فصل خاص من مائة صفحة بعنوان (التضليل والخداع الإعلامي العراق أنموذجاً) في كتابي الموسوعة عن تاريخ الصحافة العربية الذي أصدرته سنة 2012. اليوم أعود لأكتب حول التضليل الإعلامي في القرن الحادي والعشرون سوريا أنموذجاً، متسائلاً هل يمكن مواجهته في ظل الفوضى الإعلامية المختلفة التوجهات المنتشرة في الفضائيات وفي وسائل التواصل الاجتماعي، خاصة حول ما جرى ويجري في سوريا.
قبل أن أبدأ أقول أنه ومنذ أقدم العصور وضعت الكلمة على مستوى السيف، والذين يعملون في الحقل الإعلامي، هم دون شك، أكثر العاملين في المجتمع إدراكاً لأهمية الكلمة كسلاح في المعارك العسكرية والسياسية ومدى تأثيرها في المجتمع، كما في الغزو الثقافي من أجل السيطرة على العقول، خاصة في هذه المراحل الفاصلة في تاريخ الشعوب عالمياً، واليوم في سوريا التي تتعرض لأفدح الأخطار من التعتيم والتزوير.
فمن المعلوم أن سلاح الإعلام هو أخطر الأسلحة التي تواجه الأمم ومنها العربية، من المخططات المعادية للشعوب، لأن الإمبريالية والصهيونية قد اتخذتا من (الثورة الإعلامية) التي شهدها عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، ملاذاً لممارسة أكبر عملية غش، وخداع، وتضليل، وتزييف، وتخريب، وتآمر في التاريخ، على قاعدة وزير الدعاية غوبلز في عهد أدولف هتلر: "اكذب، واكذب، ثم اكذب، حتى يصدقك الناس"، وهو القائل: وهو القائل: "كلما سمعت كلمة مثقف وققافة تحسست مسدسي"، وعلى الرغم من نضوج الوعي السياسي والفكري لدى طبقة من المثقفين الذين لم يستفد منهم الوطن والمواطن سوى بالتنظير عن بعد ومن وراء مكاتب مكيفة بوسائل الراحة التامة، بعد أن باعوا أنفسهم مقابل حفنة من الدولارات، ومن أنصاف مثقفين يعيشون في البلدان العربية يكتبون ويحللون عن القضايا العربية عامة دون معرفة تاريخية لمجريات الأوضاع التاريخية منذ بداية القرن العشرين المنصرم، ويتقلدون مناصب في أحزاب وتنظيمات قومية ووطنية، ومدراء تحرير ومذيعين في قنوات فضائية، إضافة إلى من يطلق عليهم خبراء استراتيجيين وباحثين في مراكز دراسات وبحوث عربية الاسم، ومعهم من يحملون صفة دكاترة في الجامعات.
لذلك أقول أن تطور دراسات العلوم النفسية والاجتماعية التي كانت موضع استغلال الإعلام الأميركي واستثمار الجيوش الأميركية وأجهزتها الاستخباراتية ومركز الأبحاث والدراسات التابعة لها بطرق غير مباشرة وغير مباشرة في أميركا ولندن وفرنسا وألمانيا ودول أوروبية، خاصة أثناء الحرب العالمية الثانية، حيث اندفعت قوى الإمبريالية والصهيونية العالمية بعد الحرب، إلى التفتيش عن سلاح جديد لمقاومة الموجة الجديدة من اليقظات القومية في العالم، فوجدوه في الإعلام. ولتحقيق ذلك تم استخدام وسائل الإعلام من قبل أجهزة الاستخبارات المركزية ووزارة الدفاع الأمريكية ومراكز البحوث والدراسات، للتحكم بالعقول، وقد بدأت أساليب الحرب الخفية تعتمد على هذا السلاح ضد شعوب الأرض قاطبة، خدمة لأهداف النظام العالمي الجديد - القديم، واليوم يستخدمون التطور العلمي والتكنولوجي في مجالات الاتصال السريع والتحول الكبير في عصر الانترنيت لتحقيق مآربهم.
مما تقدّم نجد أن الإعلام بشكل عام هو نور، ونار في آن معاً، نور لتحرير العباد وترقيتهم فكرياً وسياسياً، ليس من أجل تحرير البلاد من الاستعمار والاحتلال فقط، بل ومن أجل توعية المواطن في كافة المجالات العلمية، والثقافية، والسياسية، والاجتماعية، ونار تحرق الحقيقة فتحوّلها إلى رماد، من خلال نشر وبث الأكاذيب والتضليل في السياسة والاقتصاد.
وفي هذا الصدد يمكن التأكيد بأن البلاد العربية تعتبر من أكثر البلدان التي تعرضت لحملات إعلامية معادية موجهة في أكبر عملية خداع، وتضليل، وتزييف في التاريخ الحديث، مورست من خلال برامج إذاعية منذ أوائل القرن العشرين. وصولاً إلى عصر الفضائيات الموجهة إلى شعوب الأرض قاطبة، فبعد غروب شمس الإمبراطورية البريطانية، ومع تطور العلوم النفسية والاجتماعية بعد الحرب العالمية الثانية، برز عامل جديد في الحروب، عُرف بحروب الإعلام، استثمرته أجهزة المخابرات الأمريكية لمواجهة اليقظة الوطنية والقومية، لدى شعوب الأرض قاطبة ومنها العربية، حيث تم توظيف الكلمة والمعرفة العلمية من خلال وسائل الإعلام، كسلاح لحجب الحقائق وتزويرها وتضليل الشعوب، خدمة لتوجهات سياسة الإمبريالية والصهيونية الأمريكية، تحقيقاً لأهدافها في إحكام سيطرتهم على البلاد العربية الغنية بالثروات الطبيعية، خاصة النفطية.
الإعلام ودور الفضائيات ووسائل التواصل الاجتماعي
إن أخطر أسلحة القرن الحادي والعشرين هو الإعلام المرئي، الذي يملأ عقول المشاهدين بالأكاذيب المحشو بالإشاعات، كما أن أخطر ما في هذا الإعلام هو الكلمة، لأنها ذات وجهين، وتوزن بمكيالين، والإعلام بشكل عام يُعتبر من أهم المواضيع وأكثرها مواجهة في أي من ظروف السلم أو الحرب، ففيه تتم عملية الهدم والبناء معاً، بما يستطيع أن يعكسه بشكل مباشر على المتلقي نفسياً، بغرض تعبئة المجتمع المحلي والرأي العام العالمي، الذي يتأثر خلالها بما تقدمه وسائل الإعلام المختلفة.
واليوم في عصر التطور التكنولوجي، وانتشار الفضائيات، وشبكة الاتصالات العالمية (الانترنيت)، بدأ تأثير الإعلام يأخذ أبعاداً أخرى، تفرضها متطلبات المرحلة المتقدمة في عصر المعلوماتية، والسرعة الإلكترونية، خاصة بعد عام 1993 حيث شهد الوطن العربي من المحيط الأطلسي إلى الخليج العربي، ولادة عشرات الفضائيات العربية التابعة للأنظمة، أو لبعض الشخصيات النافذة من أصحاب الأموال والمصالح الاقتصادية، المرتبطة اقتصادياً بالغرب، وبمصالح أعداء العرب بشكل عام.
ولعل تاريخ انطلاق تلك الفضائيات الناطقة بالعربية، وبكل المجالات الفنية والتاريخية والسياسية والدينية وغيرها، وما جرى من تحولات سياسية منذ عام 1991 في مواقف الأنظمة العربية من قضية فلسطين، دليل في حد ذاته على أهمية التأثير الإعلامي الجديد، الذي سيطر ولو بنسب مختلفة على العقول، من خلال غسل أدمغة الشعوب وترويضها للقبول بالأمر الواقع، مع التأكيد على أن كل تلك الفضائيات تابعة أو أسيرة لسيطرة دول الغرب عموماً، لأنها تملك كل التقنيات والبرامج والأدوات المستعملة فيها بدءاً من المسيطرة على الأقمار الصناعية التي يتم منها البث الفضائي لتلك القنوات الفضائية من أراض عربية وفي ما يسمى المدن الإعلامية، على الرغم من تمرير بعض الأخبار المصورة التي تجذب المتابع لما يجري في فلسطين وفي العراق واليمن ولبنان وسوريا، وهي التي يستغلها الإعلام الغربي بشكل عام في عملياته الإعلامية المضادة، إضافة لتضييع أو تشتيت فكر المشاهد، وفي الوقت نفسه بسبب ارتباط تلك الفضائيات بطريقة مباشرة بهذا أو ذاك النظام العربي، وسياسته القطرية والمرحلية، الذي يُعتبر بطريقة أو بأخرى امتداداً للإعلام المعادي للأمة العربية، على الرغم من بث وعرض بعض البرامج المقنعة لفظياً بعبارات ثورية أو وطنية، لأن المنطلقات القطرية الانهزامية، كانت ولا زالت تصب بشكل مباشر في خدمة مصلحة المخططات المعادية للاتجاه القومي، حتى بات العدد الأكبر من المناضلين القوميين السابقين يتهربون من القومية ويركزون على القطرية، وبدوره لم يعد المواطن يؤمن بالقومية نتيجة تسلسل الأحداث والانكسارات على الصعيدين القومي والقطري، وبدأ البعض علناً يطالب بقيام علاقات طبيعية وتطبيع مع أعداء الأمة والإنسانية في فلسطين المحتلة. دون أن نجد أياً من المثقفين وأنصافهم ومراكز البحوث والدراسات في البلدان العربية يكتبون أو يحللون أسباب ذلك.
وبما أن الإعلام يعتبر الانعكاس الحي للواقع الاجتماعي والسياسي لأي نظام أو تنظيم في العالم، يفرض على وسائل الإعلام استخدام الحالة السياسية الراهنة، التي يستطيع من خلالها النظام، أو الحزب، أو المجموعة، التعبير عن الأفكار والفلسفة التي يؤمن بها، والتأثير بها على المجتمع وعلى الرأي العام.
ولا بد هنا من الإشارة والتأكيد على أنه لا يجوز الفصل بين السياسي والاقتصادي، والاجتماعي والثقافي، رغم الاختلاف الظاهر بين هذه الصيغ، لأنها عرضة لأهداف سياسية يتلاعب بها الإعلام الموجه، من أجل تعبئة الرأي العام بأساليب مختلفة.
وأن ما نراه اليوم من تجرؤ بعض الحكام العرب إن لم يكن كلهم، على طرح شعارات استسلامية، تصل إلى حد الاعتراف بأعداء الأمة والاستعداد للصلح معهم، ليس سوى نتيجة لمقدمات إعلامية طويلة ظهرت للعلن بعد اتفاقية "كامب دايفيد" عام 1978، من أجل ترويض الجماهير، وتغيير مفاهيمها، التي بدأت مع انتقال المخطط الإمبريالي الصهيوني من مرحلة الدفاع أمام المد القومي العربي منذ خمسينات القرن الماضي، مروراً بانفصال الوحدة السورية-المصرية عام 1961، وما تلا ذلك من إحباط جماهيري لعب الدور الأساسي فيه الإعلام القطري حتى الخامس من حزيران/يونيو 1967 وذيوله التي امتدت إلى حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973، وصولاً إلى مرحلة الهجوم الأطلسي الأمريكي – العربي الرسمي المباشر، والمكثف للتأثير على الجماهير، والذي بدأ عملياً منذ منتصف آب/أغسطس 1990 بإصدار القرارات الجائرة في هيئة الأمم المتحدة ومجلسها الأمني ومعها دول الجامعة العربية ضد العراق، مما زاد من حالة الانشقاق في صفوف تلك الجماهير المتشرذمة أصلاً، خاصة بين المثقفين والإعلاميين، التي نتج عنها العدوان الثلاثيني بتاريخ 17/1/1991 ضد ذلك البلد العربي. وكان الدور البارز والهام في تلك الحرب العدوانية لوسائل الإعلام الفضائية، وأهمها (سي. أن. أن.) الأمريكية، التي استخدمت التكنولوجيا الحديثة لنقل الأكاذيب المصورة والصوتية إلى أرجاء العالم، تبعها في ذلك فضائيات ناطقة بالعربية لاحقاً ومنها قناة "الجزيرة" الفضائية عام 1996، ثم (العربية) عام 2003 تلتها (الحدث) عام 2012.
الأوضاع السورية بعد سقوط النظام
مما تقدم أنتقل إلى الأوضاع الجارية في سوريا، حيث نشاهد ونسمع من خلال وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة الأسماء والأنواع يومياً، تدفق سيل عارم من الفيديوهات والأشرطة الصوتية، التي تلعب دوراً محورياً في تشتيت المتابع، إضافة إلى بث السموم الطائفية والمذهبية، منها ما هو مؤيد للثورة السورية ومنها ما هو معارض لها بحجج وآراء مختلفة، وما يزيد في الطين بلة ما يتم بثه عبر فضائيات وبرامج مختلفة مثل (فيسبوك) التي انطلقة عام 2004، وقناة (يوتيوب) الأميركية التي انطلقت عام 2005 وكل منهما وسيلة مجانة وسهلة لنشر الآراء وإجراء المقابلات دون رقيب أو حسيب، انطلقت بعد ذلك برامج مختلفة مثل (تيك توك) التي ظهرت عام 2016، وبعد سقوط النظام السوري بدأت الجوانب السلبية لهذا الضخ العارم وغير المسبوق من المعلومات عبر هذه البرامج، من مختلف المناطق في سوريا بعضها يتحدث عن تخوفات، وبعضها ينشر أخبار مضللة، عبر عدسات الهواتف المحمولة (النقالة) ويجري تداولها بشكل واسع في مواقع التواصل الاجتماعي، الذي يلعب فيه الهاتف النقال دوراً محورياً، حتى بات كل حامل هاتف نقال إعلامياً بحيث بات بعض مشاهدي تلك الفيديوهات يطرح تساؤلات حول مصداقية المحتوى المتداول في ما يتم نشره، إن من طرف أفراد عاديين أو من خبراء في مجال التدقيق في المعلومات، ما يجعل من الصعب التحقق من مصداقية المحتويات، خاصة في تضارب الروايات حول كل حدث.
مع التذكير أن معظم تلك الحملات الإعلامية التي يتم بثها ونشرها إن لم تكن صهيونية وروسية وإيرانية وأجهزة استخبارات معادية للأمة، فأنها بالتأكيد تخدم أعداء الأمة بقصد أو بغير قصد ودون وعي من ناشرها بحسب توجهه الديني والطائفي والمذهبي والسياسي، بهدف إما تحريف الحقائق أو نشر الفوضى والبلبلة في داخل الوطن وخارجه. مع التأكيد على أن هذه الحملات كما أراها أنها منسقة عبر مواقع التواصل الاجتماعي ومصدرها أعداء الوطن والأمة، ومنها برنامج (تيك توك) التي يتلقفها بعض من يقال أنهم رجال دين وقيادات سياسية الذين بدورهم يبدأون بنشر المغالطات والآراء التي تهدف إلى تأليب الناس ضد بعضهم البعض، خاصة تلك التي تركز على المواضيع الدينية والطائفية والمذهبية، ونشر الكراهية والتحريض على العنف، من أجل تعزيز الانقسامات وإثارة المخاوف المستقبلية ليس على سوريا فحسب بل على بلدان المنطقة ومنها لبنان.
من أجل مواجهة هذه الحالات من التضليل الإعلامي على بلدان المنطقة، أن تبدأ المنظمات والأحزاب في إقامة ندوات ولقاءات جماهيرية في المناطق والأحياء المختلفة، لتزويد الأفراد بالقدرة على التمييز بين الأخبار الحقيقية والمضللة، ومهارات التفكير وتحليل المعلومات المنبثقة عن واقع المجتمعات المختلطة الطوائف والمذاهب والديانات، بما يعزز قدرة المواطن على التصدي لمحاولات التضليل الإعلامي، ما يساعد على تقليل انتشار الأخبار المزيفة والمضللة، وتعزيز الوعي المجتمعي، والأهم هنا هو دور وزارات الثقافة والتعليم والتربية في لبنان وسوريا تحديداً في وضع مناهج تعليمية من الابتدائي إلى الجامعي لتنشئة أجيال وطنية لا طائفية ولا مذهبية، ووضع قوانين عقوبات صارمة ضد كل من ينشر أخباراً زائفة ومضللة، خاصة أننا أصبحنا في عصر برامج "الذكاء الاصطناعي" التي يتم من خلالها تحوير الصور والأصوات، مع لفت الانتباه إلى ضرورة تركيز المناهج الدراسية على التاريخ الحقيقي للشعوب وحملات الأفرنجة وجغرافيا البلدان التي فرضها سايكس وبيكو عام 1916 على بلدان المنطقة.
20/3/2025
0 comments:
إرسال تعليق