من يقرأ قصص "قطعة ليل" للأديب المصري أحمد الخميسي سيجد أن شخصياتها قد تم اختيارها بدقة لتكشف عن هواجس كاتبها وتجربته الحياتية بأسلوب لغوي خالص، اتخذها ترجمة صريحة لمشاعر الإنسان الممزقة بين الأسى والحلم بشعاع أمل قد يأتي لاحقا.
صدرت هذه المجموعة القصصية سنة 2003 عن دار ميريت للنشر، وتحتوي على 12 قصة قصيرة حملت جملة في الإهداء تختزل خلفية مضمونها: "إلى المستقبل الذي لا يأتي أبدا".
القصة الأولى (تصادف أنني) تحكي لنا قصة شاب شاعر جاء من الريف وكل ثروته قصائد وآمال وجدها أمامه، خصوصا أنه التقى بفتاة شابة أصبحت تتذكره بعد رحيله، كما نقرأ ذلك على لسان السارد: "عيناها كانتا نفس العينين الواسعتين، تشاكسان بتحد ضاحك. لكن شيئا فيهما بعد رحيل الشاعر كان ينفلت من دورة الحياة حولها ويصب روحها كلها بعيدا في عالم آخر. أدهشني أنها ما زالت كما رأيتها وأنا صغير تعيش حقيقة واحدة، كما يحيا الإنسان على ضوء نجوم ربما لم تعد موجودة منذ زمن بعيد." (ص 6).
القصة الثانية (قطعة ليل) تحكي لنا عن رحلة ثلاثة من الشبان كانوا يسيرون منهكين في بحر من الضوء بحثا عن خيط من الظلمة، لكن كل ذلك التعب والإرهاق كان دون جدوى في النهاية: "كان الثلاثة يجرجرون خطواتهم والغبار يتصاعد حول أقدامهم والعرق يسيل من أعناقهم إلى ظهورهم. من وقت لآخر كان أحدهم يتطلع إلى جانبي الطريق المقفرة بحثا عن ظل شجرة، أو إلى السماء ربما تعبر سحابة مثقلة بالماء، أو يرهف السمع إلى خرير مياه في نهر بعيد متخيل." (ص 9).
القصة الثالثة (غيمة) تحكي لنا عن وفاة أم البطل وهي في كامل قواها العقلية والنفسية، حتى أنها لم تكن تريد سوى جرعة ماء قبل رحيلها غير أن روحها لازمت ابنها الأصغر على مدى شهرين: "أشفقنا جميعا على أخي لأنه يعيش في نفس الشقة تحيطه أنفاس أمي وأشياؤها. وكنا نستشعر صعوبة وضعه إذا تجمعنا في البيت لسبب أو آخر، لأننا كنا نحس أن طيف أمي يجوس صامتا سجينا في الهواء." (ص 15).
قد يلاحظ المتلقي أن هناك علاقة موازية إجمالا بين النصوص القصصية في "قطعة ليل" وعناوينها التي تنطوي على صيغ وجدانية تتجسد في اندماج الشخصية الرئيسية مع الآخر.
تعود الذاكرة بالبطل إلى سن التاسعة في القصة الرابعة (إغفاءة) حين زار والده في السجن، وبمرور السنوات تتكرر زيارة الأب له وهو سجين، كما نستشف ذلك في المشهد السردي الآتي: "زارني وجلسنا في غرفة مأمور آخر، بسجن آخر. هذه المرة لم تسعفه حيل الكبار الأولى ولم تسعفني براءة السنوات الأولى. راح يتطلع فيما حوله بقلق مفتشا في الغرفة المقبضة عن ريشة من طائر البهجة، ثم وكأنما عثر عليها أخرج كيسا كبيرا دفع به تحت أنف المأمور قائلا: وضعت هنا كل الممنوعات معا الشاي والبن والورق والأقلام لتسمح بمرورها كلها دفعة واحدة. ودارى المأمور ضحكته بيده. فابتسم وضمني بعينيه يسألني دون كلام: شفت؟" (ص 22).
القصة الخامسة (نتف الثلج) تجمع البطل بحبيبته في رحلة على متن القطار باتجاه توديع صديق سيسافر إلى وطنه، فتجمعهما الصدفة بالعديد من الشخصيات تحديدا طفلة صغيرة تجذب انتباه الجميع، حتى أنها تدفع البطل للتفكير في نهاية علاقته مع حبيبته: "تأملت الرجل والطفلة معا. رأيت –كأنما فجأة- أنهما يبدوان كأب وابنته حقا. نقلت بصري إلى الأم وشاهدتها بعين أخرى: راكبة عابرة جلست بالمصادفة بالقرب منهما." (ص 29).
يحاول البطل إبعاد ذلك الشخص المعروف الذي لم يسبق أن رآه عن ذاكرته في القصة السادسة (قرب الفجر) بعدما تخلف عن موعده في الحضور لتناول العشاء مع الجميع، غير أن أفراد أسرته خصوصا العمة تستنكر أنه لا يساعد غيره خصوصا أقاربه، كما جاء ذلك على لسان السارد: "فكرت أنه لا بد من مقابلته إن حانت الفرصة لأرى من يكون. ولما دعيت تلك الليلة إلى العشاء وقيل لي إنه سيحضر ذهبت إلى هناك بأمل." (ص 34).
تتمتع الشخصيات المحورية في قصص "قطعة ليل" ببطولة عادية تعكس نفسية الإحباط والانكسار والضعف والفشل والحب والحنين إلى الماضي، فهي لا تمتلك سلاحا سوى الأمل في غد أفضل قد لا يأتي أبدا.
يظل البطل –الصبي- في انتظار أمه في القصة السابعة (السند) وهو على سطح البيت، ويملأ قلبه السرور بعدما يطل رأسها من هبوة غبار بضوء الشمس من بعيد: "تخض الفرحة قلبه بشده عندما تصبح أمه قريبة واضحة وترفع عينيها إلى السطح لأنها تتوقع أنه يقف هناك يتطلع إلى الطريق ولا يفقد الأمل." (ص 39).
في القصة الثامنة (اثنان) تسافر زوجة البطل إلى الإسكندرية بحثا عن عمل بينما يظل هو على عادته بين البيت والوظيفة، غير أن تلك العلاقة كانت تمر بفتور عاطفي، كما نستشف ذلك في المشهد السرد الموالي: "كانت تدرك أن تلك المشكلة ليست كل ما يسوقها إلى الإسكندرية والالتقاء هناك بعزت بحثا عن عمل. ثمة شيء آخر أيضا، ربما شعورها الذي يطفو ثقيلا أنها لا تحس بالطمأنينة معه، لأنه في أغلب الأحوال نهب لوساوس وظنون صغيرة تسعى كالظلال تلتهم شعوره بمتعة الوجود." (ص 49).
في القصة التاسعة (نقطة عبور) يحكي لنا البطل عن فرصته الذهبية في حصوله على بطاقة لحضور حفلة السلطانة، والتي كانت محض صدفة لا تفوت: "كان ضابطا كبيرا في الجيش، ولم ينجب، فاعتبرني في محل ولده لأنني كنت أظل واقفا –عند زيارته لنا- خافض الرأس لا أجلس أبدا إلا بعد أن يستريح هو على مقعده فيمتدحني: أنت شاب محترم. هكذا بدأت علاقتنا. لهذا حصلت على البطاقة، وها أنا أرسل بصري إلى المنصة منتظرا أن تخفت أنوار الصالة وتشرق كوكب الغناء." (ص 56).
يتعرف البطل على زوجته صدفة في القصة العاشرة (موج أبيض) فيتزوجها، ثم بمرور الوقت يكتشف خيانتها له دون سابق إنذار، كما جاء على لسان السارد: "لم تعد تشبه المرأة التي عرفتها من قبل. مكثت متجمدا في مكاني لحظات ألاحق ما يتهدم في داخلي حتى لم يبق بين ضلوعي سوى فراغ أسود. لم أعد أنا أيضا أشبه نفسي. حط علي شعور ثقيل كئيب." (ص 64).
يستعين المبدع أحمد الخميسي في قصص "قطعة ليل" بتقنية المونولوج الداخلي ليعكس رؤى شخصياتها وتأملاتها الفكرية وهي تلاحق تشظي الذاكرة كي يتحقق دمجها بأحداث الزمن الحاضر.
يجد البطل نفسه يقف في عتمة الشرفة في القصة الحادية عشر (نبضة) بعد زيارته للطبيب مع زوجته الحامل، والتي تمنت ألا يحدث ذلك لظروفهم المعيشية القاسية خصوصا بعد تحطم كتفه بسبب انزلاقه بالموتوسيكل وهو ينقل شطائر البيتزا الساخنة في صندوق مغلق: "خلال الشهور الأولى باع التلفزيون، ثم تصرفت نوال في السلسلة والقرط الذهبي وأثناء بحثه عن عمل بدأ رحلة القروض الصغيرة، وانتهى بمبيت عند الأقارب اتخذ في البداية شكل زيارة بالمصادفة، وحين تكررت المصادفة أدرك الجميع ما وراءها، فتضاءلت الحفاوة وبان الفتور." (ص-ص 75-76).
تتدافع الصور المتكررة كل يوم إلى ذاكرة البطل في القصة الأخيرة (وقت آخر) فيستغرب الأمر، حتى أنه لا يجد تفسيرا مطلقا لصور قريته الناعسة التي تتكرر نفسها بلا نهاية ووجوه الركاب في الأتوبيس التي لم تعد تتبدل، حتى أن عمله لا يبدأ إلا بعد استدعاء المدير له، كما أن نفس كلمات زميله تتكرر عن الخطوبة فيحاول الهرب من كل هذا من خلال طلب إجازة مرضية: "هل يصدق الأطباء ويكذب عقله الذي يعي وعينيه اللتين تريان؟ وهل من دواء يطرد ما تثيره أحداث الأيام الأخيرة من شعور غريب بأنه يعيش حياة بالية من زمن سابق لرجل آخر استنفدها ثم خلعها لأول عابر طريق؟" (ص 85).
لا تخلو هذه المجموعة القصصية من انكسار ذاتي لنفسية شخصيات المبدع أحمد الخميسي في العموم، وهي تبحث لها عن بقعة ضوء في حياتها المستقبلية التي قد لا تأتي غالبا لكن يبقى الأمل قائما لطرد جرعات الألم القاسية تلك، حتى أنها عكست مقدرة الكاتب على تطويع السرد القصصي لخدمة النفس البشرية الممزقة بلغة بسيطة لا تخلو من الواقعية ذات الأبعاد الرمزية.
المصدر
(1) أحمد الخميسي: قطعة ليل ، دار ميريت للنشر، القاهرة ، 2003.
*كاتب وناقد جزائري
صدرت هذه المجموعة القصصية سنة 2003 عن دار ميريت للنشر، وتحتوي على 12 قصة قصيرة حملت جملة في الإهداء تختزل خلفية مضمونها: "إلى المستقبل الذي لا يأتي أبدا".
القصة الأولى (تصادف أنني) تحكي لنا قصة شاب شاعر جاء من الريف وكل ثروته قصائد وآمال وجدها أمامه، خصوصا أنه التقى بفتاة شابة أصبحت تتذكره بعد رحيله، كما نقرأ ذلك على لسان السارد: "عيناها كانتا نفس العينين الواسعتين، تشاكسان بتحد ضاحك. لكن شيئا فيهما بعد رحيل الشاعر كان ينفلت من دورة الحياة حولها ويصب روحها كلها بعيدا في عالم آخر. أدهشني أنها ما زالت كما رأيتها وأنا صغير تعيش حقيقة واحدة، كما يحيا الإنسان على ضوء نجوم ربما لم تعد موجودة منذ زمن بعيد." (ص 6).
القصة الثانية (قطعة ليل) تحكي لنا عن رحلة ثلاثة من الشبان كانوا يسيرون منهكين في بحر من الضوء بحثا عن خيط من الظلمة، لكن كل ذلك التعب والإرهاق كان دون جدوى في النهاية: "كان الثلاثة يجرجرون خطواتهم والغبار يتصاعد حول أقدامهم والعرق يسيل من أعناقهم إلى ظهورهم. من وقت لآخر كان أحدهم يتطلع إلى جانبي الطريق المقفرة بحثا عن ظل شجرة، أو إلى السماء ربما تعبر سحابة مثقلة بالماء، أو يرهف السمع إلى خرير مياه في نهر بعيد متخيل." (ص 9).
القصة الثالثة (غيمة) تحكي لنا عن وفاة أم البطل وهي في كامل قواها العقلية والنفسية، حتى أنها لم تكن تريد سوى جرعة ماء قبل رحيلها غير أن روحها لازمت ابنها الأصغر على مدى شهرين: "أشفقنا جميعا على أخي لأنه يعيش في نفس الشقة تحيطه أنفاس أمي وأشياؤها. وكنا نستشعر صعوبة وضعه إذا تجمعنا في البيت لسبب أو آخر، لأننا كنا نحس أن طيف أمي يجوس صامتا سجينا في الهواء." (ص 15).
قد يلاحظ المتلقي أن هناك علاقة موازية إجمالا بين النصوص القصصية في "قطعة ليل" وعناوينها التي تنطوي على صيغ وجدانية تتجسد في اندماج الشخصية الرئيسية مع الآخر.
تعود الذاكرة بالبطل إلى سن التاسعة في القصة الرابعة (إغفاءة) حين زار والده في السجن، وبمرور السنوات تتكرر زيارة الأب له وهو سجين، كما نستشف ذلك في المشهد السردي الآتي: "زارني وجلسنا في غرفة مأمور آخر، بسجن آخر. هذه المرة لم تسعفه حيل الكبار الأولى ولم تسعفني براءة السنوات الأولى. راح يتطلع فيما حوله بقلق مفتشا في الغرفة المقبضة عن ريشة من طائر البهجة، ثم وكأنما عثر عليها أخرج كيسا كبيرا دفع به تحت أنف المأمور قائلا: وضعت هنا كل الممنوعات معا الشاي والبن والورق والأقلام لتسمح بمرورها كلها دفعة واحدة. ودارى المأمور ضحكته بيده. فابتسم وضمني بعينيه يسألني دون كلام: شفت؟" (ص 22).
القصة الخامسة (نتف الثلج) تجمع البطل بحبيبته في رحلة على متن القطار باتجاه توديع صديق سيسافر إلى وطنه، فتجمعهما الصدفة بالعديد من الشخصيات تحديدا طفلة صغيرة تجذب انتباه الجميع، حتى أنها تدفع البطل للتفكير في نهاية علاقته مع حبيبته: "تأملت الرجل والطفلة معا. رأيت –كأنما فجأة- أنهما يبدوان كأب وابنته حقا. نقلت بصري إلى الأم وشاهدتها بعين أخرى: راكبة عابرة جلست بالمصادفة بالقرب منهما." (ص 29).
يحاول البطل إبعاد ذلك الشخص المعروف الذي لم يسبق أن رآه عن ذاكرته في القصة السادسة (قرب الفجر) بعدما تخلف عن موعده في الحضور لتناول العشاء مع الجميع، غير أن أفراد أسرته خصوصا العمة تستنكر أنه لا يساعد غيره خصوصا أقاربه، كما جاء ذلك على لسان السارد: "فكرت أنه لا بد من مقابلته إن حانت الفرصة لأرى من يكون. ولما دعيت تلك الليلة إلى العشاء وقيل لي إنه سيحضر ذهبت إلى هناك بأمل." (ص 34).
تتمتع الشخصيات المحورية في قصص "قطعة ليل" ببطولة عادية تعكس نفسية الإحباط والانكسار والضعف والفشل والحب والحنين إلى الماضي، فهي لا تمتلك سلاحا سوى الأمل في غد أفضل قد لا يأتي أبدا.
يظل البطل –الصبي- في انتظار أمه في القصة السابعة (السند) وهو على سطح البيت، ويملأ قلبه السرور بعدما يطل رأسها من هبوة غبار بضوء الشمس من بعيد: "تخض الفرحة قلبه بشده عندما تصبح أمه قريبة واضحة وترفع عينيها إلى السطح لأنها تتوقع أنه يقف هناك يتطلع إلى الطريق ولا يفقد الأمل." (ص 39).
في القصة الثامنة (اثنان) تسافر زوجة البطل إلى الإسكندرية بحثا عن عمل بينما يظل هو على عادته بين البيت والوظيفة، غير أن تلك العلاقة كانت تمر بفتور عاطفي، كما نستشف ذلك في المشهد السرد الموالي: "كانت تدرك أن تلك المشكلة ليست كل ما يسوقها إلى الإسكندرية والالتقاء هناك بعزت بحثا عن عمل. ثمة شيء آخر أيضا، ربما شعورها الذي يطفو ثقيلا أنها لا تحس بالطمأنينة معه، لأنه في أغلب الأحوال نهب لوساوس وظنون صغيرة تسعى كالظلال تلتهم شعوره بمتعة الوجود." (ص 49).
في القصة التاسعة (نقطة عبور) يحكي لنا البطل عن فرصته الذهبية في حصوله على بطاقة لحضور حفلة السلطانة، والتي كانت محض صدفة لا تفوت: "كان ضابطا كبيرا في الجيش، ولم ينجب، فاعتبرني في محل ولده لأنني كنت أظل واقفا –عند زيارته لنا- خافض الرأس لا أجلس أبدا إلا بعد أن يستريح هو على مقعده فيمتدحني: أنت شاب محترم. هكذا بدأت علاقتنا. لهذا حصلت على البطاقة، وها أنا أرسل بصري إلى المنصة منتظرا أن تخفت أنوار الصالة وتشرق كوكب الغناء." (ص 56).
يتعرف البطل على زوجته صدفة في القصة العاشرة (موج أبيض) فيتزوجها، ثم بمرور الوقت يكتشف خيانتها له دون سابق إنذار، كما جاء على لسان السارد: "لم تعد تشبه المرأة التي عرفتها من قبل. مكثت متجمدا في مكاني لحظات ألاحق ما يتهدم في داخلي حتى لم يبق بين ضلوعي سوى فراغ أسود. لم أعد أنا أيضا أشبه نفسي. حط علي شعور ثقيل كئيب." (ص 64).
يستعين المبدع أحمد الخميسي في قصص "قطعة ليل" بتقنية المونولوج الداخلي ليعكس رؤى شخصياتها وتأملاتها الفكرية وهي تلاحق تشظي الذاكرة كي يتحقق دمجها بأحداث الزمن الحاضر.
يجد البطل نفسه يقف في عتمة الشرفة في القصة الحادية عشر (نبضة) بعد زيارته للطبيب مع زوجته الحامل، والتي تمنت ألا يحدث ذلك لظروفهم المعيشية القاسية خصوصا بعد تحطم كتفه بسبب انزلاقه بالموتوسيكل وهو ينقل شطائر البيتزا الساخنة في صندوق مغلق: "خلال الشهور الأولى باع التلفزيون، ثم تصرفت نوال في السلسلة والقرط الذهبي وأثناء بحثه عن عمل بدأ رحلة القروض الصغيرة، وانتهى بمبيت عند الأقارب اتخذ في البداية شكل زيارة بالمصادفة، وحين تكررت المصادفة أدرك الجميع ما وراءها، فتضاءلت الحفاوة وبان الفتور." (ص-ص 75-76).
تتدافع الصور المتكررة كل يوم إلى ذاكرة البطل في القصة الأخيرة (وقت آخر) فيستغرب الأمر، حتى أنه لا يجد تفسيرا مطلقا لصور قريته الناعسة التي تتكرر نفسها بلا نهاية ووجوه الركاب في الأتوبيس التي لم تعد تتبدل، حتى أن عمله لا يبدأ إلا بعد استدعاء المدير له، كما أن نفس كلمات زميله تتكرر عن الخطوبة فيحاول الهرب من كل هذا من خلال طلب إجازة مرضية: "هل يصدق الأطباء ويكذب عقله الذي يعي وعينيه اللتين تريان؟ وهل من دواء يطرد ما تثيره أحداث الأيام الأخيرة من شعور غريب بأنه يعيش حياة بالية من زمن سابق لرجل آخر استنفدها ثم خلعها لأول عابر طريق؟" (ص 85).
لا تخلو هذه المجموعة القصصية من انكسار ذاتي لنفسية شخصيات المبدع أحمد الخميسي في العموم، وهي تبحث لها عن بقعة ضوء في حياتها المستقبلية التي قد لا تأتي غالبا لكن يبقى الأمل قائما لطرد جرعات الألم القاسية تلك، حتى أنها عكست مقدرة الكاتب على تطويع السرد القصصي لخدمة النفس البشرية الممزقة بلغة بسيطة لا تخلو من الواقعية ذات الأبعاد الرمزية.
المصدر
(1) أحمد الخميسي: قطعة ليل ، دار ميريت للنشر، القاهرة ، 2003.
*كاتب وناقد جزائري
0 comments:
إرسال تعليق