أثارت زيارة الفنان المتميز صابر الرباعي إلى فلسطين عددًا من القضايا الهامة التي تصدرتها مسألة التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي، وذلك لما يستجلبه هذا العنوان من ردود موسمية عاصفة وسياسية ملتبسة تتسم في العادة بكونها سهلة الترويج وسريعة الانفلات، لا سيما تلك التي تتولاها مجموعات من المناضلين العاطفيين الذين يدافعون عن فلسطين بأفئدة تهيم عند نعومة الليل وتغرق في بحور من حب "بني عذرة"، ومجموعات من المعارضين المحترفين البارعين في تطويع الشعار وصباغته بعيدًا عن معطيات الساحة والمرحلة وبمعزل عن ضرورات المصلحة الوطنية الحقيقية؛ ومن الملاحظ أن هؤلاء هم في الواقع قلة صاخبة تعلو أصواتها كصدى لموجة كاسحة تمضي بسرعة فترتطم على الصخر أو تهدأ في حضن شاطئ بعيد.
الإشكال أن "الهيصة" تخبو سريعًا وتتلاشى. العامة تنسى، ولكن في فضاءات الشرق يبقى ذلك الطنين المؤذي.
عن الزيارة والتطبيع كتبت مقالتي في الاسبوع الفائت، فالقضية هامة من الدرجة الأولى، لكنها، وعلى الرغم من خطورتها، صارت "ملطشة" لكل نزق أو صاحب مأرب أو نزوة، ولم تحظ بما يناسبها من تشريح للمعطيات الحقيقية كما تواجهها القضية الفلسطينية ويعيشها الفلسطينيون في هذا الزمن القبيح؛ ومن المؤسف أن نجد ان هذه المعادلة، بمجاهيلها الكثيرة أضحت، مع السنين، كورقة إنجيل منسية مهملة خاصة من قبل من يعيشون جحيم الواقع الفلسطيني وعليهم تقع مسؤولية السعي، بهدي دوافعهم الوطنية والسياسية الصائبة، إلى وضع مساطر مجرّدة من كل مصلحة فئوية ضيقة من شأنها أن تساعد على تعريف وضبط محددات ذلك التطبيع المذموم من غير تأثر بأي شهوة حزبية ضيقة أو جهل أو ضغوطات لمزايدات واهية.
معظم الذين هاجموا زيارة التونسي الجميل لفلسطين ضمّوا لهجومهم مدينة "الروابي" الفلسطينية فصارت هي أيضًا هدفًا لهجائهم وهجماتهم.
بعضهم فعلوا ذلك عن جهل مطبق بما تكونه مدينة الروابي هذه وكفعل تبرره لهم غريزة القطيع حين يندفع أفراده وراء من يجفل أولًا أو من يبدأ رحلة العطش والسراب في سهول "السافانا" القاحلة. بينما غالط آخرون بتعمد سافر وخطير وهاجموا الرباعي والروابي خدمة لأجنداتهم السياسية الغريبة عن واقع فلسطين المحتلة أو بدوافع لا تمت للمصلحة الفلسطينية بأية صلة أو قربى. وفي الحالتين أثارت العاصفة سؤالًا قد نعود إليه: من وكيف يصنع الرأي العام في فلسطين؟
فما كتبته جريدة "الأخبار" اللبنانية عن زيارة صابر الرباعي وحفله الوهاج في مدرج مدينة الروابي المبهر تخطى كل منطق إعلامي مهني نزيه وتعدى كونه موقفًا سياسيًا مبررًا قد يندرج فيما تتيحه حرية التعبير من هوامش وفرص حتى مع من لا يوافقهم العقيدة والرأي والموقف.
فلقد كان الأولى بمن كتب: "لعل الفنان التونسي ظن نفسه في رحلة استجمام في ربوع ادارة "أبو مازن" المعنية بتجريد أي نزعة مقاومة في الضفة المحتلة"، أن ينأى عن هذا الغلو في التقريع الشخصي والابتعاد عمّا يشي بهذه الكمية من الحقد الرخيص على من يشغل منصب رئيس منظمة التحرير الفلسطينية وحركة فتح والسلطة الفلسطينية، فحتى لو كانوا في الجريدة على خلاف سياسي مع الرئيس محمود عباس كانت الكياسة تحتم احترام ما ومن يرمز إليهم الشخص، والمسؤولية تستوجب، عند من يحسبون أنفسهم أصدقاء للفلسطينيين، أن يحترموا أولًا هذا الشعب وقياداته ومن ثم ليحتفظوا بحقهم في معارضته سياسيًا وعقائديًا، فالقارئ كان يتوقع منهم بالذات أن يتعاملوا مع المشهد بمسؤولية أكبر فالقضية تبقى فلسطين ووجعها، وعليهم في "الأخبار" أن يدركوا أن لهجتهم المتعالية المستفزة قد مست مشاعر كثيرين من أبناء الشعب الفلسطيني.
ومع يقيني أن السياسة تبقى عند البعض فنًّا في إدارة الهزائم أو الغنائم وبراعة في بيع الوهم والخواتم، أتساءل ماذا سيشفع حتى لهؤلاء حين يصير الجهل عندهم رايات للمقارعة وتهاليل للنوم في جوف الشعار. فكيف يصبح واحد من أهم المشاريع الوطنية المقاومة لفكرة الاحتلال الإسرائيلي التأسيسية مجرد "مستوطنة" تنعت بنفس تحقيري، إن كان يعيب أحدًا فهو لا يعيب أصحاب المشروع الكبير اطلاقًا. ففي "الأخبار" اللبنانية نقرأ أن صابرًا: "لا يعرف البعد الرمزي ل"مستوطنة" الروابي "حيث أحيا حفلته"، هكذا كما ورد في الأصل.
قد تكون هفوة أو غفلة لأن من يكتب بهذه الصيغة لا يفقه، أما جاهلًا أو متجاهلًا، كنه الحركة الصهيونية منذ أطلق آباؤها المؤسسون حلم العودة إلى "أرض الميعاد" وحمله المردة الخارجون من قوارير الزمن التوراتي ليحط في فلسطين طائرًا على أجنحة شعاراتهم الشيطانية وأولها: "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض". من لا يعرف معنى أن يبني الفلسطيني حتى ولو كوخًا -فما بالكم ببناء مدينة كاملة- في أرضه لا يعرف معنى الصمود وكيف تكون المقاومة عندنا.
إنها سياسة "المحو والإنشاء"، هكذا أسماها كثيرون من المحققين والباحثين وأوجزتها د. هنيدة غانم في دراسة قيمة نشرت في مجلة "الدراسات الفلسطينية" في خريف ٢٠١٣. وفيها نقرأ أن مقابل أكثر من (٤٠٠) قرية فلسطينية هدمت ومحيت أسماؤها بشكل كلّي أقيمت، منذ عام ١٩٤٨حتى خريف ٢٠١٣، أكثر من ألف مستعمرة يهودية (فقط داخل الخط الاخضر) ولحوالي (٣٥٠) منها أعطي اسم من الأسماء التوراتية القديمة، وذلك تنفيذًا لنهج مدروس باتقان ودراية محكمة من أجل محو الفلسطينيين كوجود بشري وتاريخي ومعنوي من وطنهم.
أمّا في الضفة الغربية المحتلة عام ١٩٦٧ فقد دأب الاحتلال الاسرائيلي على تنفيذ سياسة استعمارية أكثر عدوانية وقمعية ومستهدفًا نفس الوجود الفلسطيني، تمامًا كما فعلت الحركة الصهيونية الأم مع السكان الفلسطينيين الأصليين في ١٩٤٨، ومن غير الصعب متابعة ما اقترفته تلك السياسات في حق المواطنين الفلسطينيين الذين جابهوها بمقاومة إنسانية يومية لامست حد الأساطير حتى غدا إنشاء سيرة تأوي قطيعًا من الماعز يعتبر مقاومة وافشالًا لسياسة المحو والإنشاء الكارثية.
ومن مفارقات الصدف أن أكتب مقالتي هذه بالتزامن مع نشر تقرير الانتهاكات الإسرائيلية لشهر آب الفائت والصادر عن "مركز عبدالله الحوراني" التابع لمنظمة التحرير، حيث نقرأ فيه عن هدم (١٠٤) منازل ومنشأة فلسطينية خلال شهر واحد في جميع محافظات الضفة الغربية والقدس الشرقية؛ منها (٣٧) منزلًا مأهولًا و( ١٧) منزلًا تحت الإنشاء و(٥٠) منشأة تجارية وزراعية وصناعية، بناؤها، كما قلنا، يحتسب، في عرفهم تحديًا، مقاومة وصمودًا .
"الروابي"، لجميع من هاجمها وسخر منها، هي مدينة فلسطينية تبنى بأساليب حضارية مميزة وبرؤى تستشرف نسائم المستقبل وتستهدف رفاهة المواطن الفلسطيني وسلامته، وهي معدة لاستيعاب أربعين ألف فلسطيني. تقام على سفوح تلال فلسطينية أنقذت من الابتلاع لأنها انتزعت من فكي الاحتلال؛ ولمن لا يعرف فعند إتمامها ستقطع عمليًا تواصل مجموعات من المستعمرات الإسرائيلية الصغيرة التي تبدأ من الشرق حتى تصل إلى منطقة رأس العين.
في فلسطين تبنى مدينة ويرسخ وجود وتشمخ حضارة وهذا هو الأهم وما سيبقى في ذاكرة التاريخ، وكل التفاصيل الصغيرة، على أهميتها، وما قيل في السر والعلن عن بدايات بنائها وعن المستفيدين من مداخيلها سواء من كبار البرجوازيين الفلسطينيين وأصحاب رؤوس المال الذي لا يعرف الشبع، هي قضايا قابلة للنقاش والتدقيق، لكنها تبقى في المحصلة وبالمقارنة فواصل في نص كبير غني ومتين وليس أكثر من هوامش ضامرة على صفحة العمران الكبيرة والمغامرة الجليلة؛ فالرؤية من وراء انشاء مدينة فلسطينية -هي عمليًا أول مجمع سكاني يبنى منذ مئات السنين في فلسطين- تعتبر تجسيدًا لمعنى الوجود الفلسطيني وانعكاسًا للمفهوم المؤسس لفعل المقاومة ولمعنى الصمود الفلسطيني الفعلي في وجه الاحتلال الإسرائيلي ولمشروع الحركة الصهيونية الكبير.
شعب فلسطين بحاجة لمؤازرة الإخوة والأصدقاء وجميع أنصار الحرية وكرامة البشر، وأبناء هذا الشعب يشاهدون ما يجري في الدول العدوة والشقيقة والصديقة والممانعة والوسيطة، ولقد صمدوا وضحوا وما زالوا يواجهون العدو مباشرة والمكائد والمؤمرات والمزايدات وباعة الأوهام؛ وهم، لذلك، صاروا خبراء في فقه السقاية والعطش ويفرقون بين الفقاعة والرذاذ والطل والمطر، ويٓحذرون ممن يسخف صمودهم ويسخر من بناء مدينة زاهرة، سواء كان مغررًا به أو متجنيًا أو متجاهلًا لما يعرفونه هم ويعرفه البشر: فمن وقف على مدرج روابي فلسطين قبّل جبين التاريخ وزرع حصًا في تاج الكرامة، ومن غنى من هناك لغزة والقدس وجنين لامس الشام على خد القمر، ومن رندح للحب وهز أجفان الحرية هو مقاوم وسند لفلسطين الأرض وليس صاحبًا لها في المجاز والمتاع والفكرة والسهر؛ لأن المقاومة عندنا، في فلسطين، تعني البقاء في الارض والبناء في الروابي والغناء للسواعد السمر وللعيون السواهي ولأطفال يعشقون الورد ويربون الحجر.
كنت هناك وكانت الكوفية هناك وصوت شعب يحب الحياة ينادي من على كل رابية ومنحنى ووادي : "بأن البلابل لما تزل هناك تعيش بأشعارنا/ / وما زال بين تلال الحنين/ وناس الحنين مكان لنا".
الإشكال أن "الهيصة" تخبو سريعًا وتتلاشى. العامة تنسى، ولكن في فضاءات الشرق يبقى ذلك الطنين المؤذي.
عن الزيارة والتطبيع كتبت مقالتي في الاسبوع الفائت، فالقضية هامة من الدرجة الأولى، لكنها، وعلى الرغم من خطورتها، صارت "ملطشة" لكل نزق أو صاحب مأرب أو نزوة، ولم تحظ بما يناسبها من تشريح للمعطيات الحقيقية كما تواجهها القضية الفلسطينية ويعيشها الفلسطينيون في هذا الزمن القبيح؛ ومن المؤسف أن نجد ان هذه المعادلة، بمجاهيلها الكثيرة أضحت، مع السنين، كورقة إنجيل منسية مهملة خاصة من قبل من يعيشون جحيم الواقع الفلسطيني وعليهم تقع مسؤولية السعي، بهدي دوافعهم الوطنية والسياسية الصائبة، إلى وضع مساطر مجرّدة من كل مصلحة فئوية ضيقة من شأنها أن تساعد على تعريف وضبط محددات ذلك التطبيع المذموم من غير تأثر بأي شهوة حزبية ضيقة أو جهل أو ضغوطات لمزايدات واهية.
معظم الذين هاجموا زيارة التونسي الجميل لفلسطين ضمّوا لهجومهم مدينة "الروابي" الفلسطينية فصارت هي أيضًا هدفًا لهجائهم وهجماتهم.
بعضهم فعلوا ذلك عن جهل مطبق بما تكونه مدينة الروابي هذه وكفعل تبرره لهم غريزة القطيع حين يندفع أفراده وراء من يجفل أولًا أو من يبدأ رحلة العطش والسراب في سهول "السافانا" القاحلة. بينما غالط آخرون بتعمد سافر وخطير وهاجموا الرباعي والروابي خدمة لأجنداتهم السياسية الغريبة عن واقع فلسطين المحتلة أو بدوافع لا تمت للمصلحة الفلسطينية بأية صلة أو قربى. وفي الحالتين أثارت العاصفة سؤالًا قد نعود إليه: من وكيف يصنع الرأي العام في فلسطين؟
فما كتبته جريدة "الأخبار" اللبنانية عن زيارة صابر الرباعي وحفله الوهاج في مدرج مدينة الروابي المبهر تخطى كل منطق إعلامي مهني نزيه وتعدى كونه موقفًا سياسيًا مبررًا قد يندرج فيما تتيحه حرية التعبير من هوامش وفرص حتى مع من لا يوافقهم العقيدة والرأي والموقف.
فلقد كان الأولى بمن كتب: "لعل الفنان التونسي ظن نفسه في رحلة استجمام في ربوع ادارة "أبو مازن" المعنية بتجريد أي نزعة مقاومة في الضفة المحتلة"، أن ينأى عن هذا الغلو في التقريع الشخصي والابتعاد عمّا يشي بهذه الكمية من الحقد الرخيص على من يشغل منصب رئيس منظمة التحرير الفلسطينية وحركة فتح والسلطة الفلسطينية، فحتى لو كانوا في الجريدة على خلاف سياسي مع الرئيس محمود عباس كانت الكياسة تحتم احترام ما ومن يرمز إليهم الشخص، والمسؤولية تستوجب، عند من يحسبون أنفسهم أصدقاء للفلسطينيين، أن يحترموا أولًا هذا الشعب وقياداته ومن ثم ليحتفظوا بحقهم في معارضته سياسيًا وعقائديًا، فالقارئ كان يتوقع منهم بالذات أن يتعاملوا مع المشهد بمسؤولية أكبر فالقضية تبقى فلسطين ووجعها، وعليهم في "الأخبار" أن يدركوا أن لهجتهم المتعالية المستفزة قد مست مشاعر كثيرين من أبناء الشعب الفلسطيني.
ومع يقيني أن السياسة تبقى عند البعض فنًّا في إدارة الهزائم أو الغنائم وبراعة في بيع الوهم والخواتم، أتساءل ماذا سيشفع حتى لهؤلاء حين يصير الجهل عندهم رايات للمقارعة وتهاليل للنوم في جوف الشعار. فكيف يصبح واحد من أهم المشاريع الوطنية المقاومة لفكرة الاحتلال الإسرائيلي التأسيسية مجرد "مستوطنة" تنعت بنفس تحقيري، إن كان يعيب أحدًا فهو لا يعيب أصحاب المشروع الكبير اطلاقًا. ففي "الأخبار" اللبنانية نقرأ أن صابرًا: "لا يعرف البعد الرمزي ل"مستوطنة" الروابي "حيث أحيا حفلته"، هكذا كما ورد في الأصل.
قد تكون هفوة أو غفلة لأن من يكتب بهذه الصيغة لا يفقه، أما جاهلًا أو متجاهلًا، كنه الحركة الصهيونية منذ أطلق آباؤها المؤسسون حلم العودة إلى "أرض الميعاد" وحمله المردة الخارجون من قوارير الزمن التوراتي ليحط في فلسطين طائرًا على أجنحة شعاراتهم الشيطانية وأولها: "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض". من لا يعرف معنى أن يبني الفلسطيني حتى ولو كوخًا -فما بالكم ببناء مدينة كاملة- في أرضه لا يعرف معنى الصمود وكيف تكون المقاومة عندنا.
إنها سياسة "المحو والإنشاء"، هكذا أسماها كثيرون من المحققين والباحثين وأوجزتها د. هنيدة غانم في دراسة قيمة نشرت في مجلة "الدراسات الفلسطينية" في خريف ٢٠١٣. وفيها نقرأ أن مقابل أكثر من (٤٠٠) قرية فلسطينية هدمت ومحيت أسماؤها بشكل كلّي أقيمت، منذ عام ١٩٤٨حتى خريف ٢٠١٣، أكثر من ألف مستعمرة يهودية (فقط داخل الخط الاخضر) ولحوالي (٣٥٠) منها أعطي اسم من الأسماء التوراتية القديمة، وذلك تنفيذًا لنهج مدروس باتقان ودراية محكمة من أجل محو الفلسطينيين كوجود بشري وتاريخي ومعنوي من وطنهم.
أمّا في الضفة الغربية المحتلة عام ١٩٦٧ فقد دأب الاحتلال الاسرائيلي على تنفيذ سياسة استعمارية أكثر عدوانية وقمعية ومستهدفًا نفس الوجود الفلسطيني، تمامًا كما فعلت الحركة الصهيونية الأم مع السكان الفلسطينيين الأصليين في ١٩٤٨، ومن غير الصعب متابعة ما اقترفته تلك السياسات في حق المواطنين الفلسطينيين الذين جابهوها بمقاومة إنسانية يومية لامست حد الأساطير حتى غدا إنشاء سيرة تأوي قطيعًا من الماعز يعتبر مقاومة وافشالًا لسياسة المحو والإنشاء الكارثية.
ومن مفارقات الصدف أن أكتب مقالتي هذه بالتزامن مع نشر تقرير الانتهاكات الإسرائيلية لشهر آب الفائت والصادر عن "مركز عبدالله الحوراني" التابع لمنظمة التحرير، حيث نقرأ فيه عن هدم (١٠٤) منازل ومنشأة فلسطينية خلال شهر واحد في جميع محافظات الضفة الغربية والقدس الشرقية؛ منها (٣٧) منزلًا مأهولًا و( ١٧) منزلًا تحت الإنشاء و(٥٠) منشأة تجارية وزراعية وصناعية، بناؤها، كما قلنا، يحتسب، في عرفهم تحديًا، مقاومة وصمودًا .
"الروابي"، لجميع من هاجمها وسخر منها، هي مدينة فلسطينية تبنى بأساليب حضارية مميزة وبرؤى تستشرف نسائم المستقبل وتستهدف رفاهة المواطن الفلسطيني وسلامته، وهي معدة لاستيعاب أربعين ألف فلسطيني. تقام على سفوح تلال فلسطينية أنقذت من الابتلاع لأنها انتزعت من فكي الاحتلال؛ ولمن لا يعرف فعند إتمامها ستقطع عمليًا تواصل مجموعات من المستعمرات الإسرائيلية الصغيرة التي تبدأ من الشرق حتى تصل إلى منطقة رأس العين.
في فلسطين تبنى مدينة ويرسخ وجود وتشمخ حضارة وهذا هو الأهم وما سيبقى في ذاكرة التاريخ، وكل التفاصيل الصغيرة، على أهميتها، وما قيل في السر والعلن عن بدايات بنائها وعن المستفيدين من مداخيلها سواء من كبار البرجوازيين الفلسطينيين وأصحاب رؤوس المال الذي لا يعرف الشبع، هي قضايا قابلة للنقاش والتدقيق، لكنها تبقى في المحصلة وبالمقارنة فواصل في نص كبير غني ومتين وليس أكثر من هوامش ضامرة على صفحة العمران الكبيرة والمغامرة الجليلة؛ فالرؤية من وراء انشاء مدينة فلسطينية -هي عمليًا أول مجمع سكاني يبنى منذ مئات السنين في فلسطين- تعتبر تجسيدًا لمعنى الوجود الفلسطيني وانعكاسًا للمفهوم المؤسس لفعل المقاومة ولمعنى الصمود الفلسطيني الفعلي في وجه الاحتلال الإسرائيلي ولمشروع الحركة الصهيونية الكبير.
شعب فلسطين بحاجة لمؤازرة الإخوة والأصدقاء وجميع أنصار الحرية وكرامة البشر، وأبناء هذا الشعب يشاهدون ما يجري في الدول العدوة والشقيقة والصديقة والممانعة والوسيطة، ولقد صمدوا وضحوا وما زالوا يواجهون العدو مباشرة والمكائد والمؤمرات والمزايدات وباعة الأوهام؛ وهم، لذلك، صاروا خبراء في فقه السقاية والعطش ويفرقون بين الفقاعة والرذاذ والطل والمطر، ويٓحذرون ممن يسخف صمودهم ويسخر من بناء مدينة زاهرة، سواء كان مغررًا به أو متجنيًا أو متجاهلًا لما يعرفونه هم ويعرفه البشر: فمن وقف على مدرج روابي فلسطين قبّل جبين التاريخ وزرع حصًا في تاج الكرامة، ومن غنى من هناك لغزة والقدس وجنين لامس الشام على خد القمر، ومن رندح للحب وهز أجفان الحرية هو مقاوم وسند لفلسطين الأرض وليس صاحبًا لها في المجاز والمتاع والفكرة والسهر؛ لأن المقاومة عندنا، في فلسطين، تعني البقاء في الارض والبناء في الروابي والغناء للسواعد السمر وللعيون السواهي ولأطفال يعشقون الورد ويربون الحجر.
كنت هناك وكانت الكوفية هناك وصوت شعب يحب الحياة ينادي من على كل رابية ومنحنى ووادي : "بأن البلابل لما تزل هناك تعيش بأشعارنا/ / وما زال بين تلال الحنين/ وناس الحنين مكان لنا".
0 comments:
إرسال تعليق