في إستدارة سياسية وإبتعاد عن سياسية حزب الأحرار التقليدية( عصر نفقات وتخفيض الضرائب) وانقلاب إيديولوجي تاريخي غير مسبوق في السياسة الأسترالية، قدّم وزير الخزينة سكوت موريسن الأسبوع الماضي ميزانية العام 2017 وهي الثانية لموريسن وحكومة تيرنبول والتي سطت فيها الحكومة على بعض سياسات وبرامج حزب العمال، حيث أطلق عليها البعض ميزانية العمال المخففة، مما أضطر زعيم حزب العمال بيل شورتن في رده الرسمي على الميزانية للقول " لا يخطئ أحدكم، هذه ليست ميزانية حزب العمال" وردد هذه العبارة مرات عديدة في خطابه.
موريسن نفسه في العام 2015 كان يقول إن المشكلة التي تواجه الحكومة هي" مشكلة الإنفاق وليست مشكلة الإيرادات". وفي الإنقلاب على هذا الموقف فرض موريسن في ميزانيته ضرائب جديدة بقيمة 21 مليار دولار عل أربع سنوات من خلال رفع ضريبة التأمين الصحي العام (الميديكير) من 2% إلى 2.5% تبدأ العام 2019 من أجل تأمين الأموال لنظام التأمين الصحي الوطني للمعاقين. وفي خطوة غير مسبوقة وغير متوقعة من من حكومة ليبرالية فرضت حكومة الاحرار ضريبة على المصارف الخمس الكبرى بنسبة 0,06% أي ما يعادل مبلغ 6,2 مليار دولار للسنوات الأربع القادمة، بالاضافة إلى ذلك تعهدت الحكومة بملاحقة الشركات الدولية الكبرى والتي تتهرّب من دفع الضرائب في أستراليا، وكذلك تعهّدت بملاحقة المؤسسات التي تعمل بالسوق السوداء وتتهرّب من الإفصاح عن نفقاتها وايراداتها.
في مجال التعليم فرضت الحكومة زيادة على الرسوم الجامعية بنسبة أقل من 8% وخفضت نسبة الحد الأدنى لاسترداد التقديمات المالية التي تقدمها للطلاب خلال تحصيلهم الجامعي المعروف ب(هكس) من 55 الف إلى 42 الف دولار.
أما في ما خص المدارس فقد خصّصت الحكومة مبلغ 18.6 مليار دولار لتنفقها على المدارس الحكومية والخاصة على مدى 10 سنوات في ما عُرف بكونسكي 2.0 علماً أن الحكومة كانت تعارض خطة كونسكي الاولى التي وضعتها سابقاً حكومة جوليا غيلارد العمالية عام 2013 مع العلم أن خطة الحكومة الجديدة سوف تقتطع بعض المساعدات عن المدارس الخاصة والكاثوليكية المصنفة بالغنية.
والمعروف ايضاً أن الحكومة أجرت تعديلات على سياسات الهجرة وفرضت رسوماً جديدة على العمال الأجانب. ولكن كان ملفتاً للنظر أن الحكومة التزمت إلغاء ضريبة الاثنين بالمئة التي فرضتها حكومة ابوت الأحرارية عام 2014 على أصحاب الدخل المرتفع والذي يتجاوز 180 الف دولار سنوياً ولمدة ثلاث سنوات والتي اعتبرت يومذاك مساهمة من هؤلاء لسد العجز في الميزانية وقد سارع حزبي العمال والخضر لانتقاد خطوة الحكومة هذه وطالبوا بالابقاء على تلك الضريبة.
وقد لوحظ الإنقلاب الحكومي أيضاً في سياسة الحكومة الجديدة الخاصة بالانفاق على مشاريع البنى التحتية والذي استبقه الوزير موريسن بحملة ما عرف بالديون الجيدة والديون السيئة وقد خصصت الحكومة مبلغ 75 مليار دولار على مدى 10 سنوات لبناء خط سكك حديد جديد من ملبورن إلى برزبن والمطار الثاني لمدينة سدني وتحسين الطرقات والبنى التحتية الأخرى في باقي الولايات وبناء محطات لتوليد الطاقة الكهربائية. وكذلك ستنفق الحكومة مبلغ 300 مليون دولار لمساعدة الأجهزة الأمنية في محاربة الإرهاب والجريمة المنظمة واستغلال الأطفال، وتتوقع الحكومة أن يعود الفائض للميزانية في العام المالي 2020-2021. والملفت للنظر ان الميزانية لم تتطرق لا من قريب ولا من بعيد لقضايا التغييرات المناخية هذا التجاهل الذي انتقده حزب الخضر، وكذلك ابتعدت الحكومة عن أي معالجة جذرية لمشكلة الإسكان رغم أنها قدّمت بعض التخفيضات الضريبية (15%) فقط لمشتري المنزل الأول على مبلغ أقصاه 30 ألف دولار من خلال زيادة مساهمتهم في حسابات معاش الإدخار التقاعدي (السوبر) ليكون بإمكانهم إستعمالها كجزء من الدفعة الاولى، ولم تقارب الميزانية قضايا الإستثمار السلبي (نيغاتيف غيرنغ) او الأرباح على رأس المال إلا أنها فرضت ضريبة 5000 دولار على المنازل غير المؤجرة لمدة 6 أشهر في السنة الواحدة للحد من أزمة الإيجار.
بهذا الإنقلاب تكون الحكومة قد أسدلت الستار على العوالق المتبقية من ميزانية حكومة طوني أبوت الأحرارية عام 2014 والتي فرضت ضرائب لسد العجز في الميزانية لم تكن قد عرضتها على الناخبين في حملتها الانتخابية والتي أدت إلى تراجع شعبية حكومة أبوت في إستطلاعات الراي العام ومن ثم إنقلاب مالكوم تيرنبول على أبوت في أيلول عام 2015.
رفعت الحكومة شعاراً لميزانيتها "عدالة، فُرص وأمن" وتأمل الحكومة من خلال هذه الميزانية أن تتحسن شعبيتها لدى الرأي العام .
لكن السؤال الذي يفرض نفسه هو هل سيطابق حساب الحقل حساب البيدر كما يقول المثل اللبناني الشهير؟
بدأت تلوح في الأفق بعض العقبات التي تواجه خطط الحكومة، فهذه البنوك تنظر في إمكانية القيام بحملة دعائية ضد قرار الحكومة فرض تلك الضريبة وهذا ما لم تستبعد رئيسة جمعية المصارف آنا بلاي ( رئيسة وزراء كوينزلند العمالية السابقة) معتمدة على سابقة حملة شركات التعدين عام 2010 التي فرضت على حكومة كيفن راد العمالية التراجع عن قرارها فرض ضريبة على تلك الشركات، والتي أدت لاحقاً إلى خسارة راد رئاسة الوزراء بعد إنقلاب جوليا غيلارد عليه. وقد انتقد مدراء المصارف الضريبة بالإضافة إلى رئيس الوزراء الاحراري السابق جان هاورد والذي يعتبره رئيس الوزراء الحالي تيرنبول مثاله السياسي الاعلى، لكن ما يساعد الحكومة في هذا الخصوص هو موقف حزبي العمال والخضر الذين اعلنا تأييدهما للضريبة وطالب حزب العمال الحكومة بوضع آلية تمنع البنوك من تمرير الضريبة للمستهلكين بزيادة الرسوم او زيادة سعر الفائدة، لكن وزير الخزينة حذر المصارف من الاقدام على خطوة كهذه مضيفاً ان الزبائن غير معجبين بكم كثيراً، فلا تؤكدوا لهم نظريتهم واثبتوا لهم إنهم على خطأ، والمعروف أن حزب العمال يطالب بتشكيل لجنة تحقيق ملكية خاصة في إداء البنوك.
أما فيما يخصّ السياسة التعليمية الجديدة فقد اتهم حزب العمال الحكومة باقتطاع مبلغ 22 مليار دولار من مشروع كونسكي الأساسي لتمويل المدارس، فيما أبدى حزب الخضر مرونة بالنسبة لسياسة الحكومة الجديدة رغم أن الخضر والعمال يعارضون زيادة الضرائب على طلاب الجامعات، وكذلك تعارض المدارس الكاثوليكية السياسة التعليمية الجديدة ويقف معها بعض نواب جناح اليمين في حزب الأحرار.
بالنسبة لقضايا الصحة فقد عارض حزب العمال زيادة الضريبة على القطاع الصحي العام الميديكير على ذوي الدخل المتوسط والأدنى واشترط لتأييد الحكومة أن تفرض الضريبة على أصحاب الدخل الذي يزيد عن 87 ألف دولار سنوياً.
سياسياً هل سيستطيع رئيس الحكومة بهذا الانقلاب وقف المد الشعبوي المتأثر بانتخاب دونالد ترامب وخروج بريطانيا من الاتحاد الاوربي والذي عاد الى الندوة البرلمانية في انتخابات عام 2016 وإعادة حزب أمة واحدة بولين هانسون إلى الساحة السياسية؟ أوإستقالة كوري برناردي من حزب الاحرار وتشكيل حزب المحافظين الاسترالي.
وما هو موقف جناح اليمين داخل حزب الأحرار الذي يتزعمه رئيس الوزراء السابق طوني ابوت من الإنقلاب الإيديولوجي لتيرنبول؟
والأهم من كل هذا وذاك كيف ستكون ردة فعل الناخبين على سياسة تيرنبول والذي توسّم به الكثيرون خيراً عند تسلمه دفة الحكم قبل أن يخيّب تلك الآمال؟ ويتراجع عن معتقداته في قضايا مثل التغييرات المناخية وتحويل أستراليا الى جمهورية أو زواج المثليين متبنياً سياسية جناح اليمين في الحزب.
أخيراً، كان ملفتاً للنظر إلى ما قاله البروفسور جون هيوسن والزعيم السابق لحزب الأحرار "إن افتقار الميزانية إلى إصلاح حقيقي سوف يترك إقتصادنا عرضة للخطر، في ظل سياسة وقدرة مالية ونقدية محدودة لمواجهة تحديات أي أزمة مالية جديدة وكذلك في ظل العديد من التحديات الجيوسياسية المعقدة والتي تدق جرس الإنذار في منطقتنا" (سدني مورنيغ هيرالد 12/05/2017 ص 22).
إذاً، عدالة، فرص وأمن، وهذه الميزانية آخر فرصة لمالكوم تيرنبول !
Email: abbasmorad@hotmail.com
0 comments:
إرسال تعليق