لقد سيطرت المدرسة البغدادية منذ بداية القرن الرابع الهجري ، وطغت على المدرستين الكوفية والبصرية ، ولا نعني من حيث الرقعة المكانية ، فبغداد كانت ساحة للكوفيين من أيام المهدي ، وعهد الرشيد ، ثم أصبحت حلبة السباق والتنافس بين الكوفيين والبصريين خلال عهدي الواثق وأخيه المتوكل ، وإنّما نقصد سيطرة العقلية البغدادية ، وهيمنة الفكر البعدادي ومجتمعه ، فلم تعد هنالك هيمنة لأحد على أحدٍ ، بل لم يعد النحو بحد ذاته لب الصراع ومحور التنافس ، وأساس المصالح ، لذلك خفّ بريقه ، وقلّ خيره المادي ، ولكن لم ينقص شعاعه المعنوي، فما زال هو المرتكز الأساسي للأديب والشاعر والفيلسوف والفقيه والعالم ، والقاسم المشترك لكلِّ مؤلف ومصنف يحترم لغته ويعتز بأمته .
المهم لم يعد النحوي البغدادي يهتم كثيراً للتفريق بين النحويين وعمّن يأخذ نحوه ، والحقيقة أن أبا إسحاق إبراهيم ابن الشري الذي كان يخرط الزجاج ، ولقب بـ (الزجاج) ، ولد و توفي في بغداد (ت 316 هـ / 928م) ، عالم باللغة والنحو ، وعلـّم القاسم بن عبيد الله وزير المعتضد الذي سمَّ ابن الرومي، ولابن الرومي يذكر الزجاج عندما كان يقول له في مجلس الوزير القاسم اخرج وافسح المجال لغيرك !! :
ليت شعري عن الفراسي والزجـْ ***ـجاج هل يرعيان مني الإخاءَ ؟
فيقولان : إنّ موضع مــــــولا **** كَ عميراً أشـــف ُّ منهُ خلاء
يا لقوم ٍأأثقلَ الأرض شخصيَ **أم شكتْ من جفاء خلقي امتلاءَ؟ (1)
هذا السيد الزجاج ترك شيخه ثعلباً في حياته عندما سحره المبرد بمنطقه وتحليلاته ، ولمّا لاموه على تركه ثعلباً إلى رجل مجهول غير معروف لدى البغداديين قائلين :
" تأخذ عن مجهول لا تعرف اسمه وتدع من هو شهر علمه وانتشر في الأفاق ذكره ؟
فقال لهم : لست أقول بالذكر والخمول ولكني أقول بالعلم والنظر " (2) .
وانتهت رئاسة النحو في بغداد إلى هذا الرجل الزجاج بعد المبرد ، وأصبح يدرس المذهبين حتى توفي في بغداد بالتاريخ المذكور سالفاً ، وكذلك كان أبو الحسن محمد بن أحمد بن كيسان ( ت 299 هـ / 911م) (3) كان بصرياً كوفيأً يحفظ القولين ، ويعرف المذهبين ، لأنه أخذ عن المبرد وثعلب " وكان أبو بكر بن مجاهد المقري يقول : أبو الحسن بن كيسان أنحى من الشيخين - يعني ثعلباً والمبرد - ومزج النحوين ، فأخذ من كل واحد منهما ما غلب ظنه صحته " (4) .
يستطيع الباحث المتتبع أن يستطلع على ما له قد وافق به الكوفيين في كتاب (المدرسة البعدادية ...) رسالة الدكتور محمود حسني (5) ، ومثلهما أبو بكر محمد بن سراي ابن السراج النحوي (ت 316 هـ /928 م) ، أخذ عن المبرد ، كان ثقة ، قد ألف كتاب (الأصول) ، انتزعته من أبواب (كتاب سيبويه) إلا أنه عول عليه على (مسائل الأخفش) ومذاهب الكوفيين ، وخالف أصول البصريين في أبواب كثيرة ، وروى عنه أبو القاسم عبد الرحمن الزجاجي ، وأبو سعيد السيرافي ، والزجاجي المذكور قد لازم الزجاج الأول وأخذ منه ، فنسب إليه ، ولله في خلقه شؤون ، وكان منهجه وسطاً ، فلا يفضل نحواً على نحو إلا بالصواب ، توفي المنسوب في دمشق ( 337 هـ / 949 م) ، له كتابان (المجمل في النحو) و (الإيضاح في علل النحو) (6).
إذاً المدرستان قد شرعتا بالتلاشي ، أو بكلمة أدق بالانصهار تدريجياً لتتركب منهما سبيكة واحدة ، طليت بمصطلحات المدرسة البصرية ، ولكن الدكتور حسني يرى في (مدرسته البغدادية) أن بعض النحويين ظلت لديه ميول نحو إحدى المدرستين ، ولا نرغب في تعداد أعلام البغداديين الكوفيين ، والبغداديين البصريين منعاً للإطالة والملل ، المهم أن المدرسة البغدادية انتخابية خلطت بين المدرستين السالفتين ، وأخذ المجددون من الكوفيين والبصريين دون تميز أو تعصب إلا أبا بكر بن الأنباري الذي ترسم خطا الكوفيين ، إذ تأثر يأستاذه أبي العباس ثعلب ، بل عرف بتعصبه لمدرسته ، ونقوله الكثيرة من شيوخها.
الشيخ الطنطاوي في ( نشأة النحو ) يصنفهم إلى من غلبت عليه النزعة البصرية كالزجاج وابن السراج والزجاجي وابن درستويه ، وممن غلبت عليه النزعة الكوفية كأبي موسى الحامض و ابن الأنباري ، وممن جمع بين النزعتين ، وممن جمع بين النزعتين كابن قتيبة وابن كيسان والأخفش الصغير وابن شقير وابن الخياط ونفطويه (7) .
ومن وجهة نظرنا من كان يتمع بقوة الحافظة ، وحفظ الروايات وتشعبها ، والاقتناع بشواذها حُسبَ أقرب إلى المدرسة الكوفية كابن الأنباري ، ومن كان يتفلسف تحليلاً ، ويتكلم منطقاً بقياس كالزجاج حسب على المدرسة البصرية ، ومن جمع الطريقتين واجتهد ، صعب تحديده ، فنسب إلى مدرسة جديدة، هي المدرسة البغدادية ، ومن الجدير ذكره أن أغلب المصطلحات الكوفية استبدلت بالمصطلحات البصرية وذلك لأقدميتها ، ودقة توافقها للتعبير عن المضامين النحوية ، بالرغم من أن هذه المضامين كادت أن تكون واحدة لدى المدرستين ، يقول الزجاجي في (إيضاحه) ، " إنما نذكر هذه الأجوبة عن الكوفيين على حسب ما سمعنا مما يحتج به عنهم من ينصر مذهبهم من المتأخرين ، وعلى حسب ما في كتبهم إلآ أنّ العبارة عن ذلك بغير ألفاظهم والمعنى واحد " (8) ، ويكرر استخدامه للمصطلحات البصرية عندما يحتج للكوفيين قائلاً " وأكثر ما أذكره من احتجاجات الكوفيين إنما أعبر عنها بألفاظ البصريين " (9) .
والغرض من توحيد المصطلحات تسهيل الدراسة ، وتعميم الفائدة ، ثم أن بعض المصطلحات الكوفية جاءت من بعد لردود أفعال غير مدروسة ضد البصريين، وحدث العكس أحياناً أمثلة :
1 - مثل (قائم) عند البصريين (اسم فاعل) ، وعند الكوفيين (فعل دائم).
2 - أسماء الأفعال ماضية مثل (هيهات) ، مضارعة مثل (آه) ، أمر مثل (صه) ، عند الكوفيين أفعال حفيفية يجوز تنوينها .
3 - حروف المعاني عند البصريين مثل (بل) و (هل) ... يطلق عليها الكوفيون (أدوات) والحق معهم لكي يفرقونها عن حروف الهجاء.
4 - المصطلحات المعنوية كـ (الخلاف) لنصب الظروف ، و(الصرف ) لنصب المفعول معه عند الكوفيين حذفت لا توجد عند البصريين ، عللت بتأويلات أخرى .
5 - ونوجز عند البصرين : اسم الإشارة ، الضمير ، ضمير الفصل ، المفاعيل (المطلق ، لأجله ، فيه ، معه) ، الظرف ، البدل ، التمييز ، الصفة ، حروف النفي ، لام الابتداء ، العطف ، مبني للمجهول ، واو المعية ، التنوين ، الجر ، حروف الجر ، الحال ، ...إلخ .
عند االكوفيين : التقريب ، المكنى ، العماد ، أشباه مفاعيل ، الصفة أو المحل ، الترجمة ، التفسير ، النعت ، حروف الجحد ، لام القسم ، النسق ، لم يسم فاعله ، واو الصرف ، النون ، الخفض ،الإضافة ، القطع ... إلخ .
وهنالك مسائل خلاف بين المدرستين في الإعراب وفلسفته ، والصرف واشتقاقه ، بقى لدينا كتابان يعتمد عليهما ، قابلان للنقاش والتمعن والتأمل لمسائل الخلاف والبقية انقرضت ، الأول لأبي البركات ابن الأنباري (ت 577 هـ / 1181م ) ، وكتابه ( الإنصاف في مسائل الخلاف ) ، وبالرغم من أنّه تبرع أن يفرض على نفسه ميثاق العدل والإنصاف للحكم بين المدرستين قائلاً :
" واعتمدت في النصرة على ما أذهب إليه من مذهب أهل الكوفة أو البصرة على سبيل الإنصاف ، لا التعصب والإسراف " (10) ، ولكنه لم يكن منصفاً ، ولم يستطع إمساك نفسه من نصرة أصحابه أهل البصرة ، فقد تعصب وأسرف تحت لذة التفلسف وسيطرة أهواء المنطق ، فمن بين "121" .
مسألة طرحها لم يرجّح إلا سبع مسائل للكوفيين ، وهي المسائل ذوات الأرقام :
- "10" حول سبب رفع (لولا ) لما بعدها .
- "18" إذ لم يجز الكوفيون تقديم خبر( ليس) لأنها فعل غير منصرف .
- "26" وتدور حول اللام الأولى في (لعل) أنها أصلية فوافقهم عليها .
- رقم "70" إذ ذهب الكوفيون إلى أنه يجوز ترك صرف ما ينصرف في موضوع الشعر ، وذهب البصريون إلى أنه لا يجوز،فوافق الكوفيين ، وللمتنبي أبيات من الشعر على رأي الكوفيين في هذه المسألة ، ومسائل أخرى حتى أنه حسب عليهم ، والجواهري سار على درب سلفه المتنبي في أبيات من شعره ومنها هذه المسألة .
- وفي المسألة "97" وافق الكوفيين في أنّ الياء والكاف في (لولاي ، لولاك) في موضع الرفع , لا في موضع جر كما قال البصريون .
- وفي "101" أصرّ الكوفيون على أن الاسم المبهم نحو (هذا و وذاك) أعرف من الاسم العلم ، فلا يعرف إلا بالقلب .
والمسألة رقم "106" جوّز الكوفيون على نقل حركة الفتح للاسم المنصوب المعرف بـ (الـ) إلى الحرف الساكن ما قبل آخره نحو ( رأيت البكـَرْ)، ومثلها في حالتي الرفع والخفض مثل (هذا البكـُرْ ، و مررتُ بالبكِرْ) وذلك لعدم التقاء الساكنين ، والبصريون لا يوافقون على نقل الفتحة .
فالأنباري وافق الكوفيين في هذه المسائل السبع فقط من أصل "121" مسألة ، وهذا ليس بإنصاف بل إجحاف ، إذ اعتمد على الفلسفة والمنطق في حكمه ، وهذا منهجه البصري منذ مطلع دراسته ، فكيف ينصف يا منصف ؟!! (11) .
وهكذا ذهب الطنطاوي في (نشأته) ، و د . المخزومي في (مدرسته) ، و د. العثيمين في (تحقيقه ...) (12) . والكتاب الثاني لأبي البقاء العكبري ( ت 616 هـ / 1219 م) ، وكتابه ( التبيين عن مذاهب النحويين البصريين والكوفيين) ، يشتمل على على خمس وثمانين مسألة من ( الكلام والكلمة) بداية حتى (ترخيم الرباعي) نهاية ، ذكر فيه مسائل خلافية عامة وعددها ثمان وعشرون مسألة ، وبعض مسائل خلافية بين البصريين والكوفيين تفرد بذكرها العكبري وعددها مسألتان " المسألتان رقم " 27 - 28" ، ومسائل خلافية بين المدرستين النحويتين ذكرها العكبري كما ذكرها ابن اٌنباري وعددها خمس وخمسون مسألة ، ولم يكن أبو البقاء أكثر إنصافاً من صاحبه ابن الأنباري ، لأن العصر لا يحتمل الوقوف مع الروايات السماعية و اللغات العفوية أمام الفلسفة الكلامية ، والحوارات المنطقية .
وعذر العكبري معه ، لأنه لم يرشح نفسه حكماً عدلاً بين الفريقين وأحصى الدكتور العثيمين في تحقيقه لكتاب (التبيين) سبعة عشر كتاباً قد ذكرت في بطون المصادر، وكلها تبحت في موضوع الخلاف بين المدرستين . (13)
اجتهد البغداديون ، وتحيروا أحياناً أي شيء يفضلون حسب تفكيرهم وإبداعاتهم ، وأتلف الزمان ما أتلف من التصانيف الكوفية كـ (معاني القرآن) للفرّاء ، و (مجالس ثعلب) ، و (التبيان في شرح الديوان ) شرح ديوان المتنبي ، ولو أنه منسوب خطأً إلى أبي البقاء العكبري .. هذه الحلقات هي مدخل من كتابي " نشأة النحو العربي ومسيرته الكوفية - مقارنة بين النحو البصري والنحو الكوفي " يوضح بإيجاز ما بذله الأجداد والأحفاد في سبيل رفعة وديمومة لغتنا الجميلة و آدابها ، ومن أراد التوسع والتعمق عليه مراجعة الكتب والمصادر ذات الاختصاص الرصينة والموثوقة ، والله فوق كل ذي علم عليم وأعلم .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع والمصادر دون ذكر أرقام الصفحات
(1) (ابن الرومي حياته وشعره ) : بحثه كمال أبو مصلح ص المكتبة الحديثة .
(2) راجع (طبقات النخويين واللغويين) : ص ، (المدرسة البغدادية) ص م. س .
(3) راجع ترجمة ابن كيسان (إنباه الرواة...) : ج ص ص - ، (طبقة النحويين واللغويين) ترجمته .
(4) ( إنباه الرواة) : ج ص - م. س .
(5) (المدرسة البغدادية في تاريخ النحو العربي ) : محمود حسني ص -مؤسسة الرسالة - 1986م - بيروت.
(6) ( إنباه الرواة...) : ج ص م. ص . (المدرسة البغدادية ...) ص م . س .
(7)(نشأة النحو ...) : ص - م. س .
(8) (الإيضاح) :للزجاجي ص دار العروبة - 1959 - القاهرة.
(9) (الإيضاح ) : ص م . س ,
(10) (الإنصاف في مسائل الخلاف ) : ج1 ص 5 م . س .
(11) المصدر نفسه , راجع أرقام المسائل .
(12) راجع (نشأة النحو ..) : الطنطاوي ص ، (مدرسة الكوفة..) :- (التبيين) :ص م. س. (13) راجع كتاب (التبيين): ص - تحقيق الدكتور الدكتور عبد الرحمن سليمان العثيمين - 1986م - بيروت .
0 comments:
إرسال تعليق