"من يأكل من خبز السلطان يضرب بسيفه". أردت تثبيت هذا المثل الشعبي في مقدمة المقال لأنه أصبح ينطبق على واقعنا الثقافي بعد أن تغيّر دور المثقف (من دون التعميم) من الملتزم بقضايا أمته ووطنه وقومه وأصبح سيف السلطان مسلطاً على أقلام الكتّاب الذين يفكرون بصوت عال بعيداً عن مصالح شخصية، نفعية، آنية وأنانية ضيقة، ويغرّدون خارج سرب مثقّفي السلطان الذين رهنوا إرادتهم وسخّروا أقلامهم وحبّروا صفحاتهم بسواد الكلام الإلغائي التبخيري بأسلوب أنتهازي لمجرد أنهم من حاشية السلطان المحظية، ويأكلون من خبزه ويريدون فرض سطوتهم ومفهمومهم بدون وجه حق في إعتداء فاضح على الحق والحقيقة التي يمعنون بها تشويهاً ليصبح الحق باطلاً والباطل حقاً!
ومن أجل خدمة مموليهم لا يتوان هؤلاء المثقفون إلصاق التهم بكل من يخالفهم الرأي ونعتهم بأبشع الأوصاف كالجهل والاجرام والتخلف ولا يتورعون عن التشكيك في وطنيتهم وصولاً الى تكفيرهم، بإطلاق الاكاذيب وإستعمال الحجج المخادعة التي تفتقد الى أي مصداقية .
هذا النوع من الثقافة والمثقّفين الإنتهازيين يمكن رصدهم على كل المستويات ولكل منهم درجة ومرتبة. والمرء ليس بحاجة إلى ميكروسكوب وعلى منوال قلّ لي من تعاشر أقل لك من أنت ينسحب عليهم القول قلّ لي أين تكتب أقل لك من أنت حيث يتلوّن كلامهم حسب رغبات وليّ النعمة.
لكن الطامة الكبرى تبقى في مثقّفو التبخير الإنتهازيون والذين بتلوّنهم الحربائي على طريقة لكل مقام مقال يتقاسمون الكثير من السمات والمواصفات مع مثقّفي السلطان، ويميّزهم عنهم أنّهم يقفون على كل الأبواب لعرض خدماتهم لمن يدفع أكثر، ويقدّمون أوراق اعتمادهم بدون بروتوكول لأن هذا الصنف من المُسَخَّفين وليسو المثقفين، الخارجون عن كل القيم وينتظرون صعود الدخان الاأبيض لإتمام صفقاتهم .
يفهم المرء أن هناك تضارب مصالح بين الدول. وتحزّب المثقفين ووقوفهم مع مصالح بلادهم القومية يجب أن لا يلغي الجانب الإنساني للمثقف، ولكن ما هو عصيّ على الفهم كيف يستسيغ من يدعي الثقافة أن يحوّل الخصومة في السياسة الداخلية إلى عداوة، متناسياً أو لاغياً البعد الوطني والقومي والإنساني، مسلّطاً سهام قلمه المسمومة يميناً وشمالاً ضد من يخالفه الرأى، ما يجعلنا نتساءل أيضاً ما هو الهدف الذي يكمن وراء هذا التضليل وتدمير الأسس الثقافية للحوار والنقد البنّاء والتوعية من قبل الذين يدعون تنوير الناس وتثقيفهم، حيث يجتهدون لإيهام هؤلاء الناس أنهم وأسيادهم يدافعون عن مصالحهم، بينما واقع الحال يشي عكس ذلك تماماً، والأنكى من ذلك أنهم يندفعون في تغذية مشاعر الحقد والكراهية وزرع التفرقة وإبقاء الشعب جاهلاً ومسيطر عليه وخاضع لإرادتهم وتضليل الرأي العام بعيدأ عن الشفافية ، ولا يخشون في الباطل لومة لائم كما هو الحال في العالم العربي، حيث الخاسر الوحيد هو الشعب الذي تتعقد مشاكله من الحياة اليومية ومعاناتها إلى الإنتماء والهوية التي تراجعت إلى الأسس البدائية الطائفية، المذهبية، القبلية والعشائرية، وتأبيداً لهذا الواقع القديم المتجدّد الذي كرّس أسس هذه الهوية الإجتماعية الثقافية، يستمرّ هذا المثقّف الإنتهازي المنحرف عن القيم الوطنية والثقافية والإجتماعية في غيّه، لا يرفّ له جفن ولا يأخذ أي عبرة من المأساة التي تعصف بكل مكونات العرب سواء كانت على مستوى الأقطار أو ثقافة أبنائها التي شوّهت هذا الجيل والأجيال القادمة حيث يستدعي الخروج من هذا الدرك جهوداً جبارة لأن الخشية أن تكون الأزمة تجذّرت وأصبحت عميقة منفلتة من عقالها.
فهل من يتّعظ ؟!
سدني أستراليا
0 comments:
إرسال تعليق